
من الجنوب اللبناني إلى بيروت وصولاً إلى البقاع، بدت السماء أمس الأوّل مفتوحةً على انتهاكٍ واسعِ النطاق، مع تحليقٍ مكثّفٍ للطائرات الحربية والمُسَيَّرة الإسرائيلية، من دون أي اكتراثٍ يُذكر بالحدود أو بالسيادة.
وما يثير القلق لا يقتصر على الخرق بحدّ ذاته، بل على الصمت الذي رافقه محلياً وعربياً ودولياً، وكأن هذا الاعتياد على الانتهاك تحوّل إلى أمرٍ طبيعيّ لا يستوجب موقفاً أو حتى تعليقاً.
هذا المشهد يعكس خللاً مركّباً في ميزان الردع السياسي قبل العسكري، فحين تغيب المواقف الرسمية الواضحة، تُترك الساحة مفتوحةً لتكريس وقائع جديدة في الوعي العام، حيث يصبح الخرق الجويّ حدثاً يومياً بلا كلفةٍ سياسية، وهو ما يطرح أسئلةً جوهرية حول قدرة الدولة على حماية مجالها الحيوي، وحول معنى السيادة حين تُنتهك من دون ردودٍ دبلوماسية أو تحرّكاتٍ قانونية فاعلة.
إقليمياً، يبدو الصمت جزءاً من حالة إنهاكٍ عامّة تعيشها المنطقة، حيث تتزاحم الأزمات وتتعاظم الحسابات، فتتراجع الأولويات، ويُعاد ترتيب الملفات وفق منطق «إدارة المخاطر» لا مواجهتها. أمّا دولياً، فإن ازدواجية المعايير تطفو مجدداً، إذ تُرفع شعارات احترام القانون الدولي حيناً، وتُغَضّ الأبصار حيناً آخر، تبعاً لموازين المصالح لا لمبادئ العدالة.
التحليق فوق العاصمة ومناطق الداخل لا يحمل فقط دلالاتٍ أمنية، بل رسائل سياسية ونفسية أيضاً. إنّه اختبارٌ مستمرّ لحدود التحمّل، وضغطٌ متدرّج يهدف إلى تطبيع الانتهاك وتفريغه من رمزيته الخطِرة. ومع الوقت، يتحوّل الغياب عن الردّ إلى جزءٍ من المعادلة، بما يُضعف أي قدرةٍ لاحقة على الاعتراض أو التصعيد السياسي المنظّم.
إنّ استمرار هذا الواقع من دون مقاربةٍ شاملة يهدّد بتآكل مفهوم الدولة بذاته، وهنا المطلوب ليس الانجرار إلى مواجهاتٍ مفتوحة، بل استعادة المبادرة السياسية، وتوحيد الموقف الداخلي، وتفعيل القنوات الدبلوماسية، وإعادة وضع مسألة السيادة الجوية على جدول الاهتمام الإقليمي والدولي. فالصمت، مهما طال، لا يحمي السماء، بل يوسّع هامش انتهاكها.

