
كتب المحامي يوسف بهاء الدويهي:

في الخطاب السياسي اللبناني، لم تعد السيادة مفهومًا جامعًا يُبنى عليه مشروع دولة، بل تحوّلت إلى أداة نزاع دائم، تُستحضر عند الحاجة وتُوظَّف في بازار المزايدات. ومع كل استحقاق أو أزمة، تتقدّم القضايا الخلافية إلى الواجهة، فيما تتراجع — أو تُهجَّر عمدًا — القضايا المعيشية والتربوية والصحية والاجتماعية، وكأنها مسائل ثانوية لا ترقى إلى مستوى “المعركة السياسية”.
من زاوية قانونية–سياسية، هذا الانقلاب في الأولويات ليس بريئًا. فالدستور اللبناني، في روحه ونصّه، لا يختزل الدولة بشعارات سيادية، بل يحمّلها مسؤوليات واضحة تجاه مواطنيها: ضمان التعليم، الرعاية الصحية، العدالة الاجتماعية، والأمن بمفهومه الشامل. غير أن الممارسة السياسية ذهبت في اتجاه معاكس، حيث استُبدلت وظيفة الدولة الاجتماعية بوظيفة خطابية، وأُفرغت السيادة من مضمونها القانوني لتُختصر في شعارات فضفاضة.
الأخطر من ذلك، أن العجز عن إدارة الشأن العام يُقابَل، لا بالمحاسبة الذاتية أو تصحيح السياسات، بل بإحالة الفشل على “الآخر”. الخصم السياسي يصبح تلقائيًا مسؤولًا عن كل تقصير، ومع اختلاف الرأي، لا يُناقَش البرنامج ولا تُقاس النتائج، بل تُوزَّع تهم الخيانة والعمالة وكأنها أدوات دستورية. هكذا يُلغى جوهر التعددية السياسية، ويُفرَّغ مبدأ المحاسبة من مضمونه، لصالح منطق التخوين الذي يريح السلطة ويشلّ النقاش العام.
من منظور القانون الدستوري، هذا السلوك يُشكّل انحرافًا خطيرًا عن مبدأ تداول السلطة والمساءلة الديمقراطية. فالخلاف السياسي، في أي نظام سليم، هو خلاف حول السياسات العامة والخيارات الاقتصادية والاجتماعية، لا حول وطنيّة الخصوم. وعندما تتحول الوطنية إلى سلاح إقصائي، تصبح الدولة رهينة خطاب تعبوي دائم، عاجز عن إنتاج سياسات عامة قابلة للتنفيذ.
أما المواطن، فهو الخاسر الأكبر. فبين صراع السيادات المعلّبة، تتآكل قدرته على الوصول إلى تعليم لائق، واستشفاء آمن، وحماية اجتماعية أساسية. وتتحول الدولة من ضامن للحقوق إلى ساحة نزاع، ومن مؤسسة عامة إلى منصة صراخ سياسي. في هذا السياق، لا يعود غريبًا أن يفقد اللبناني ثقته بالسياسة، لا لأنها معقّدة، بل لأنها تخلّت عن أبسط وظائفها.
إن إعادة الاعتبار للعمل السياسي تمرّ، أولًا، بإعادة ترتيب الأولويات: السيادة ليست شعارًا يُرفع عند الحاجة، بل إطار قانوني يُفترض أن يخدم الإنسان. وكل خطاب سيادي لا يُترجَم بسياسات اجتماعية واقتصادية واضحة، يبقى مجرّد مزايدة، مهما علا صوته. وفي بلد كلبنان، لم يعد المطلوب مزيدًا من الاتهامات، بل شجاعة سياسية تعترف بأن حماية المواطن هي الشكل الأصدق للسيادة.

