كتب محمد الصالحين الهوني في صحيفة العرب.
العرب الذين يفترض أن يكونوا في موقع متقدم بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الثقافية والدينية يقفون اليوم على الهامش متفرجين على إعادة تشكيل المشهد الأفريقي دون أن يكون لهم دور فاعل.
زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى إثيوبيا ومنحه أعلى وسام مدني في البلاد، نيشان إثيوبيا العظيم، لا يمكن النظر إليه كحدث بروتوكولي، بل علامة تكشف عن تحولات عميقة في ميزان القوى العالمية، وتؤكد أن القارة الأفريقية أصبحت اليوم ساحة مركزية للتنافس. هذا التنافس لم يعد مقتصرًا على الصين والولايات المتحدة كما كان خلال العقدين الماضيين، بل دخلت الهند بقوة إلى المشهد، مقدمة نفسها كشريك إستراتيجي جديد، يختلف في خطابه وأدواته عن النموذجين الغربي والصيني، ويطرح رؤية تقوم على التعاون التجاري والتكنولوجي والصحي، وعلى تعزيز الشراكة جنوب – جنوب.
قراءة الحدث تتطلب النظر إليه في سياق أوسع من مجرد تكريم دبلوماسي، فهو يعكس إدراكًا أفريقيّا متزايدًا لأهمية تنويع الشركاء، كما يعكس رغبة هندية في تثبيت موقعها كقوة صاعدة على المسرح الدولي. الصين رسخت حضورها في أفريقيا عبر مبادرة الحزام والطريق، مستثمرة في البنية التحتية والموانئ والطرق والسكك الحديدية، لكنها خلقت في الوقت نفسه ما يعرف بفخ الديون الذي أثقل كاهل العديد من الدول الأفريقية. الولايات المتحدة ركزت على ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب، خاصة في الساحل والقرن الأفريقي، لكنها لم تقدم نموذجًا اقتصاديّا جذابًا يوازي طموحات التنمية في القارة. أما الهند فقد دخلت متأخرة، لكنها دخلت مقدمة نفسها كشريك قادر على الاستثمار في الطاقة والتكنولوجيا والقطاع الصحي، ومستخدمة خطابًا يقوم على الاحترام المتبادل والابتعاد عن الاستغلال.
المطلوب اليوم من صنّاع القرار العرب هو قراءة هذه التحولات بوعي إستراتيجي، وصياغة رؤية متكاملة للتعامل مع أفريقيا كجزء من الأمن القومي العربي
هذا التنافس الثلاثي يفتح أمام أفريقيا فرصًا هائلة للتنمية، لكنه في الوقت نفسه يطرح تحديات جسيمة. فالقارة قد تستفيد من تعدد الشركاء، لكنها قد تجد نفسها أيضًا في قلب صراع مصالح بين قوى كبرى، ما يضع استقرارها على المحك. ومن هنا تأتي أهمية قراءة انعكاسات هذا المشهد على العالم العربي، الذي يرتبط بالقارة الأفريقية عبر ملفات الأمن والطاقة والهجرة، ويجد نفسه جزءًا من معادلة جديدة تتشكل أمام أعيننا.
العالم العربي، خاصة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، يرتبط بالقارة الأفريقية عبر الجغرافيا والتاريخ، فالبحر الأحمر والمتوسط والخليج العربي هي ممرات إستراتيجية تربط المنطقتين وتجعل أي اضطراب في أفريقيا ينعكس مباشرة على الأمن العربي. والمنافسة على الغاز والنفط والمعادن النادرة في أفريقيا تؤثر بشكل مباشر على أسواق الطاقة في الشرق الأوسط، ودخول الهند إلى هذا المشهد يعزز التنافس على الموارد ويطرح تحديات وفرصا للدول العربية.
الهجرة تمثل بعدًا آخر لهذه العلاقة، فأفريقيا مصدر رئيسي للهجرة نحو أوروبا عبر المتوسط مرورًا بالدول العربية، وأي اضطراب في القارة ينعكس على دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط سواء عبر موجات هجرة جديدة أو عبر تحديات أمنية مرتبطة بالتهريب والجريمة المنظمة. التنافس الدولي في أفريقيا قد يزيد من هذه الضغوط إذا أدى إلى عسكرة جديدة للقارة أو إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية. ويجعل العالم العربي معنيًا مباشرة باستقرار أفريقيا لأنه جزء من منظومة أمنية واحدة، وأي صراع في القرن الأفريقي أو الساحل قد يمتد إلى الشرق الأوسط والعكس صحيح.
زيارة مودي إلى إثيوبيا مؤشر على تحولات عميقة في التوازنات الدولية. بالنسبة إلى صنّاع القرار في العالم العربي، هذا الحدث يطرح أسئلة حول كيفية الاستفادة من دخول الهند إلى أفريقيا
المفارقة المؤلمة أن العرب، الذين يفترض أن يكونوا في موقع متقدم بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الثقافية والدينية، يقفون اليوم على الهامش، متفرجين على إعادة تشكيل المشهد الأفريقي دون أن يكون لهم دور فاعل. بينما الصين تبني الموانئ والطرق، والولايات المتحدة ترسم خرائط الأمن، والهند تدخل بقوة عبر التكنولوجيا والاستثمار، يكتفي العرب بالغياب أو بردود فعل متأخرة لا ترقى إلى مستوى التحدي.
زيارة مودي إلى إثيوبيا مؤشر على تحولات عميقة في التوازنات الدولية. بالنسبة إلى صنّاع القرار في العالم العربي، هذا الحدث يطرح أسئلة إستراتيجية حول كيفية الاستفادة من دخول الهند إلى أفريقيا، وإمكانية بناء شراكات ثلاثية عربية – أفريقية – هندية تعزز التنمية والاستقرار، وكيفية مواجهة التحديات المرتبطة بالتنافس الدولي خاصة في مجالات الطاقة والأمن والهجرة. لكن هذه الأسئلة تبقى بلا إجابات واضحة، لأن العرب لم يبلوروا حتى الآن رؤية إستراتيجية متكاملة للتعامل مع أفريقيا، ولم يدركوا أن الغياب عن هذه الساحة يعني خسارة نفوذ قبل أن تبدأ المعركة.
المطلوب اليوم من صنّاع القرار العرب هو قراءة هذه التحولات بوعي إستراتيجي، وصياغة رؤية متكاملة للتعامل مع أفريقيا كجزء من الأمن القومي العربي. هذه الرؤية يجب أن تقوم على تعزيز التعاون الاقتصادي مع الدول الأفريقية في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والبنية التحتية، وبناء تحالفات أمنية لمواجهة التحديات المشتركة مثل الإرهاب والتهريب والهجرة غير النظامية، والاستثمار في القوة الناعمة عبر التعليم والثقافة والإعلام لتعزيز الروابط الشعبية بين العرب والأفارقة، والانخراط في التنافس الدولي عبر شراكات ذكية مع الصين والولايات المتحدة والهند بما يضمن مصالح العرب ولا يضعهم في موقع التابع.
من لا يقرأ أفريقيا اليوم سيجد نفسه غدًا خارج معادلة القوة العالمية.

