يفخر خالد الشحاتيت، مدير مدرسة ماجد أبو شرار الحكومية في مدينة دورا، جنوبي الضفة الغربية المحتلة، بإرث مدرسته: عدد الطلاب الذين حصلوا على مواقع في العشرة الأوائل في الأراضي الفلسطينية خلال السنوات الماضية، وعدد الطلاب الذين أبدعوا في دراسة الحاسوب والطب والهندسة وغيرها، لكنه اليوم قلق، ليس فقط على مستقبلهم، بل أيضاً على مستقبل التعليم في فلسطين جراء الأزمة المالية المستفحلة في السلطة، والتي يقول إن نتائجها كارثية على التعليم.
على حد وصف الشحاتيت، خلال حديثه لـ”الشرق”، فإن التعليم في الأراضي الفلسطينية “ينهار”، مرجعاً ذلك إلى “انخفاض الوقت والجهد المتاحين لتعليم الطلاب”، جراء الأزمة المالية الخانقة.
بدأ المعلمون في الأراضي الفلسطينية، العام الدراسي الحالي، بإضراب جزئي مفتوح يعملون بموجبه ثلاثة أيام فقط في الأسبوع، جراء عدم تلقي مرتباتهم، الضعيفة نسبياً، بانتظام جراء الأزمة.
وفي هذا السياق يضيف خالد: “المعلم لدينا يعمل 48 يوماً في الفصل النصف سنوي، منها 15 يوماً امتحانات، وهذا وقت غير كاف لإتمام العملية التعليمية التي تقوم على الترابط والتراكم”.
خدمات صحية “في خطر”
وتعمل القطاعات الحكومية الأخرى في الأراضي الفلسطينية، وفق برنامج شبيه، فالأطباء والعاملون في القطاع الصحي يعملون يومين في الأسبوع فقط، وباقي القطاعات ثلاثة أيام.
ويلوح الأطباء والعاملون في القطاع الصحي بإضراب مفتوح عن العمل، وكذلك موردو الخدمات الصحية، من شركات أدوية ومستشفيات، حتى أن التحذيرات بشأن الإضراب وصلت إلى الشرطة مؤخراً.
وبدأت الأزمة المالية في السلطة الفلسطينية، قبل أربع سنوات جراء الاقتطاعات الإسرائيلية من الإيرادات الجمركية، وتراجع الدعم الخارجي، وتزايد النفقات الناجم عن تزايد عدد السكان، إضافة إلى ما يوصف بـ”سوء إدارة” من حيث التعيينات الحكومية الزائدة عن الحاجة.
وتفاقمت الأزمة بصورة حادة جداً منذ مايو الماضي، عندما قررت الحكومة الإسرائيلية، وقف كافة التحويلات الجمركية للسلطة الفلسطينية لأسباب سياسية.
وتشكل التحويلات الجمركية التي تجمعها إسرائيل من الواردات الفلسطينية حوالي 70% من موازنة الحكومة الفلسطينية.
اقتطاعات الحكومة الإسرائيلية من إيرادات السلطة الفلسطينية
مبالغ مالية مقابل خدمات تقدمها إسرائيل لشركات وبلديات فلسطينية، مثل الكهرباء والمياه.
عقوبات تفرضها تل أبيب على السلطة الفلسطينية، مثل مصادرة قيمة ما تدفعه السلطة من رواتب ومخصصات مالية لسكان قطاع غزة والأسرى وأسر الشهداء.
عقوبات على تجمعات سكانية فلسطينية تحت بند تلويث البيئة، ووصول مياه عادمة من بعض هذه التجمعات إلى إسرائيل، وغيرها.
ودأبت الحكومات الإسرائيلية، على اقتطاع مبالغ مالية كبيرة من هذه الإيرادات، بعضها في مقابل خدمات تقدمها لشركات وبلديات فلسطينية، مثل الكهرباء والمياه، وبعضها عقوبات تفرض على السلطة، مثل مصادرة قيمة ما تدفعه السلطة من رواتب ومخصصات مالية لسكان قطاع غزة والأسرى وأسر الشهداء، ومنها عقوبات على تجمعات سكانية تحت بند تلويث البيئة، ووصول مياه عادمة من بعض هذه التجمعات إلى إسرائيل، وغيرها.
سموتريتش يدفع نحو انهيار الحكومة الفلسطينية
في شهر مايو الماضي، قرر وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، المعروف بمواقفه الداعية إلى حل السلطة الفلسطينية واستبدالها بمجالس محلية لكل تجمع سكاني على حدة، وقف كامل التحويلات الجمركية، ما أدى إلى تفاقم الأزمة بصورة غير مسبوقة، ما تسبب في انهيارات متفاوتة في القطاعات والخدمات الحكومية.
وقال الخبير في الشؤون المالية، مؤيد عفانة، لـ”الشرق”، إن قيمة ما تحتجزه إسرائيل من أموال المقاصة، وصل إلى 13.5 مليار شيكل (الدولار يساوي 3.26 شيكل)، وهو ما لا تستطيع السلطة الفلسطينية تعويضه من أي مصدر آخر.
وأوضح أن من بين هذا المبالغ، تحتجز إسرائيل 275 مليون شيكل شهرياً، منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023. وتمثل قيمة ما تدفعه الحكومة الفلسطينية من رواتب وخدمات لسكان القطاع، منها 53 مليون شيكل، رواتب ومخصصات مالية لعائلات الأسرى والشهداء.
في محاولة منها للتكيف مع الأزمة المالية المتفاقمة، بدأت الحكومة الفلسطينية منذ أواخر 2021 بدفع نسبة تبلغ حوالي 60% من رواتب الموظفين. وأظهرت إحصائية أخيرة أعدتها وزارة المالية، أن مستحقات الموظفين المتراكمة منذ ذلك الوقت حتى أكتوبر الماضي، وصلت إلى 7.3 مليار شيكل.
وقال مسؤول في وزارة المالية الفلسطينية لـ”الشرق”، إن إجمالي الدين العام والمتأخرات المتراكمة على الحكومة، حتى أكتوبر، وصلت إلى 46.5 مليار شيكل، وهو مبلغ غير مسبوق.
وأوضح أن مستحقات القطاع الخاص من موردين ومشافي وغيرها بلغت 6.7 مليار شيكل، بينما وصل الاقتراض المحلي إلى 11.2 مليار شيكل، فيما كسر حاجز الاقتراض الخارجي، 4.4 مليار شيكل.
خطر انهيار حكومي
وأدّت الإجراءات الإسرائيلية، منذ بدء الحرب على غزة، ومنها منع العمال الفلسطينيين من العمل في إسرائيل، إلى حدوث أزمة اقتصادية واسعة في الضفة الغربية، انعكست على باقي القطاعات، ومنها الإيرادات الحكومية. وأشار تقرير أخير صادر عن الأمم المتحدة إلى أن 43% من سكان الضفة يواجهون صعوبات حقيقية في توفير الغذاء.
وترى بعض الأوساط في السلطة الفلسطينية، أن “خيار الانهيار” وارد، وينتظر “قراراً سياسياً” من الحكومة الإسرائيلية.
وقال أحد مساعدي الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لـ”الشرق”، إنه “من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية لم تقرر بعد اللجوء إلى خيار الانهيار، لكنه من الممكن أن تقرر ذلك في ظروف أخرى مستقبلاً”.
وأضاف: “لا توجد اتصالات مباشرة رسمية بيننا وبين الحكومة الإسرائيلية، لكن هناك قنوات غير رسمية، والرسائل التي تصلنا من تلك القنوات أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مهتم ببقاء السلطة، لكنه مضطر لوقف التحويلات الجمركية للحفاظ على الائتلاف الحكومي”.
ويقول المسؤولون في السلطة الفلسطينية، إن “خيار الانهيار لا تتحكم فيه إسرائيل بشكل مطلق”، مشيرين إلى أطراف أخرى مؤثرة، منها الإدارة الأميركية، والدول العربية، والاتحاد الأوروبي.
وقال أحد المسؤولين لـ”الشرق”، إن “العرب والأوروبيين لديهم تأثير كبير، فعلى سبيل المثال، السعودية تضع بقاء السلطة الفلسطينية، ليس فقط في الضفة الغربية وإنما أيضاً توليها دوراً مركزياً في قطاع غزة في المرحلة القادمة، بنداً أساسياً في العلاقة مع الإدارة الأميركية، وكذلك تفعل مصر والأردن وعدد من الدول الأوروبية المهمة، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها”، على حد تعبيره.
غطاء مالي دولي
حاولت الحكومة الفلسطينية الحصول على غطاء مالي دولي، لتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات والخدمات الحكومية، لكنها لم تحقق نجاحات كبيرة.
وعل سبيل المقال، زاد البنك الدولي قيمة المنحة السنوية التي يقدمها للسلطة خلال العام الجاري من 80 مليون دولار إلى 300 مليون دولار. كما تعهد الاتحاد الأروبي برفع مستوى الدعم من 200 مليون يورو سنوياً إلى 533 مليون يورو سنوياً ولمدة ثلاث سنوات. وتقدم المملكة العربية السعودية دعماً سنوياً قدره 120 مليون دولار.
وبدأت السلطة الفلسطينية مؤخراً، ما يسميها الرئيس الفلسطيني محمود عباس “سياسة سحب الذرائع” من إسرائيل، ومنها وقف دفع رواتب شهرية للأسرى في السجون الإسرائيلية، واستبدال ذلك بمساعدة اجتماعية محدودة تتراوح بين 1400-1880 شيكل للعائلات الفقيرة من هذه الفئة.
كما تتضمن تلك السياسة، إدخال تعديلات على المناهج التعليمية، يجري فيها إزالة بعض التعبيرات التي ترى فيها إسرائيل وجهات أوروبية وغربية أنها تحمل “مضامين تحريضية”.
واعتبر مسؤول كبير في السلطة، خلال تصريحاته لـ”الشرق”، أن “هذه التعديلات تشكل مساراً إجبارياً للحصول على الدعم الدولي، ليس فقط لبقاء السلطة، وإنما لانتقالها لإدارة قطاع غزة”.
وأضاف: “هذا ما يسمى القرارات المؤلمة التي يتوجب على الحكومات اتخاذها، لتجنب مصائر أكثر قسوة وإيلاماً”.
ويرى كثير من المسؤولين والخبراء، أن الإجراءات الإسرائيلية ستؤدي إلى مزيد من التراجع في القطاعات والخدمات الحكومية، لكنها لن تؤدي إلى الانهيار الكلي.
وقال مساعد الرئيس عباس: “لو كان بوسع سموتريتش وحتى نتنياهو، أن يحل السلطة الفلسطينية لفعل، لكن العالم لن يسمح بذلك”.
وأضاف: “الإجراءات الإسرائيلية تضعف الخدمات، وربما تؤدي إلى انهيارات في هذه الخدمات، لكن السلطة باقية بقوة المجتمع الفلسطيني ومكانتها الدولية”، بحسب تعبيره.

