كتب عادل الحربي في صحيفة الرياض.
يستقبل البيت الأبيض ضيفًا استثنائيًا؛ فزيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن تأتي في توقيت بالغ الحساسية، وسط تحولات دولية وإقليمية كبرى، وهي بلا شك ستكون محطة جديدة في مسار تحالف يتجدد باستمرار.. وستكون فرصة لتجديد الالتزام الاستراتيجي بين البلدين، ورسالة أن المملكة والولايات المتحدة تدركان أن العالم اليوم يحتاج إلى تعزيز التحالفات نحو الاستقرار، لا نحو الصدام.
منذ عقود طويلة، والعلاقات السعودية – الأميركية تمثل أحد أهم أعمدة التوازن في الشرق الأوسط، علاقة شهدت مراحل من التوافق والاختلاف، لكنها بقيت ثابتة في جوهرها، لأنها علاقة شراكة لا تبعية، ومصالح لا مزايدات، واستثمار لا مساعدات، والقمة المنتظرة تأتي امتدادًا طبيعيًا لهذا المسار، لكنها في الوقت نفسه تحمل ملامح مرحلة مختلفة، تقوم على الإرث التاريخي وعلى الإيمان المشترك أن العالم تغيّر، وأن القوة والنفوذ اليوم تتجاوز السلاح، لتشمل الاقتصاد، والطاقة، والتقنية، والذكاء الاصطناعي، والاستقرار الإقليمي.
لذلك فإن اللقاء بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس ترمب يُقرأ بوصفه محطة تأكيد متبادل على أن العلاقة بين البلدين تجاوزت اختبارات كثيرة، وأنها قادرة على أن تتكيّف مع التغيرات دون أن تفقد ثوابتها، وسموه يذهب إلى واشنطن لحوار عملي حول ملفات اقتصادية وسياسية وأمنية تشكّل ملامح الشرق الأوسط الجديد. ملفات تشمل الطاقة واستقرار الأسواق، والتعاون الدفاعي، والاستثمار في التكنولوجيا الخضراء، وصولًا إلى دعم مشاريع التحول الرقمي، ومكافحة التطرف، وتمكين الشباب.
وفي الوقت الذي يتراجع فيه نفوذ بعض القوى التقليدية في المنطقة، تبرز الرياض بثقة لافتة كقوة محورية تجمع بين الحكمة السياسية والأدوات الفاعلة، ومن يتتبع السياسة الخارجية للمملكة يدرك أنها تجاوزت منطقة “ردة الفعل” إلى “صناعة الفعل”، وواشنطن، من جانبها، تدرك أن السعودية الجديدة تُقدّم نموذجًا يفرض احترامه، ويُعيد صياغة العلاقة مع القوى الكبرى بلغة المصالح والاحترام المتبادل، وزيارة ولي العهد إلى البيت الأبيض بهذا المعنى هي إعلان جديد عن أن الشراكة بين البلدين باتت تقوم على بناء مصالح متوازنة في عالم لم يعد يحتمل المعادلات القديمة، وقد أثبتت التجربة أن واشنطن، مهما تغيّرت إداراتها، فإنها لا تستطيع تجاوز الرياض في أي ملف يخص المنطقة، تمامًا كما تدرك الرياض أن استقرار الشرق الأوسط لا ينفصل عن التفاهم مع الولايات المتحدة.
الفرق اليوم أن الحوار بين الشريكين لم يعد يدور حول “ما الذي تريده واشنطن؟”، وإنما “ما الذي يمكن أن ننجزه معًا؟”؛ حيث تحوّل الخطاب السعودي إلى خطاب مبادر وواثق، يضع المصالح الوطنية أولًا، ويعبّر عن رؤية مستقلة، ويستند إلى معادلة جديدة في إدارة التحالفات: الاحترام المتبادل، والندية في القرار، والوضوح في الموقف. وهذا ما يجعل هذه الزيارة مختلفة عن كل الزيارات السابقة، لأنها تُجسّد التحول إلى مرحلة الشراكة والإنجاز.. وما يميز الرياض في تعاملها مع العواصم الكبرى أنها لا تذهب لطلب الدعم، بل لتبادل المصالح وعقد الشراكات.. فعندما تتحدث عن الاستثمار في أميركا، تتحدث بصفتها شريكًا قادرًا على خلق الفرص، لا مستهلكًا يبحث عن دعم.
الزيارة أيضًا تعكس إدراكًا متبادلًا بين الرياض وواشنطن أن عالم ما بعد الجائحة والحروب يحتاج إلى شراكات ذكية، لا إلى تحالفات تقليدية، فالتحديات الجديدة -مثل الذكاء الاصطناعي- تفرض نوعًا جديدًا من العلاقات، تكون فيها التقنية والمعرفة والطاقة النظيفة جزءًا من الأمن القومي المشترك. وفي هذا السياق، تأتي هذه الزيارة لتُعيد رسم حدود التعاون بين البلدين في المجالات الجديدة التي ستصنع اقتصاد الغد.
الولايات المتحدة تنظر اليوم إلى المملكة بوصفها مركزَ استقرار إقليميا، لا مجرد حليف نفطي، فهي الشريك الذي أثبت أنه قادر على التوازن بين الشرق والغرب، وبين الانفتاح الاقتصادي والهوية الثقافية، وبين الحداثة والانتماء، وهي الدولة التي نجحت في تحويل التحديات إلى فرص، والعواصف إلى مشاريع، والضغوط إلى مكاسب، بينما يرى السعوديون في هذه الزيارة امتدادًا طبيعيًا لدبلوماسية ناجحة أعادت تعريف حضورهم في العالم، وأكدت أن السياسة السعودية تُدار برؤية جريئة تضع المصلحة الوطنية في قلب كل قرار.
في واشنطن، لن يكون الحديث عن النفط والسلاح فقط، بل عن الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، واستثمارات المستقبل، وعن دور المملكة المتصاعد كقوة إصلاحية واقتصادية وسياسية في آن واحد، فالقمة السعودية – الأميركية تحمل بُعدًا رمزيًا بقدر ما تحمل مضمونًا عمليًا؛ فهي إعلان عن مرحلة جديدة في العلاقات الثنائية، عنوانها الثقة المتبادلة، والعمل المشترك، والرؤية المستقبلية، وهي بكل ما تحمله من رمزية وأبعاد استراتيجية، تؤكد أن العالم يتغير، وأن التحالف السعودي – الأميركي التزام استراتيجي وخيار ثابت يتجدّد مع كل لقاء، ومع كل مرحلة.

