المال السياسي والمزاج الشعبي يقصيان التيار المدني من معادلة الانتخابات العراقية
فيما شنّ أحد شيوخ العموم في العراق هجوماً قاسياً على أفراد عشيرته بعد خسارته الانتخابات، فإن المفارقة اللافتة أن التيارات والقوى المدنية، التي هي النقيض للعشيرة، خسرت هي الأخرى فرصة الفوز في انتخابات هيمن عليها المال السياسي ومزاج الجمهور.
ففي مفارقة لافتة، لم يتمكّن عشرات من «الشيوخ العموم»، أي الذين يتزعمون قبائل كبيرة في العراق، بعضها يتكوّن من تحالفات عشائرية، تضم مئات الآلاف من الأفراد المنتمين لمثل هذه التحالفات، من الفوز في الانتخابات العراقية، في حين فاز شيوخ آخرون، لكن ليس من بوابة العشيرة، إنما من بوابة الانتماء إلى قوى وأحزاب سياسية، بعضها تمسّك بالسلطة من بعد سقوط النظام السابق عام 2003، وتمكّن بعضها الآخر من تكوين قاعدة شعبية مناطقية له خلال السنوات الأخيرة.
في السياق نفسه، وفيما يبدو أنه النقيض النوعي للعشائرية، لم يتمكّن التيار المدني العراقي، بشقيه السياسي التقليدي، ممثلاً في الحزب «الشيوعي» العراقي -أحد أقدم الأحزاب العراقية (تأسس نهاية الأربعينات من القرن الماضي)- والتيارات المدنية الأخرى، بما فيها التي تنتمي إلى «حراك تشرين»، من الظفر بمعقد واحد في الانتخابات الأخيرة.
وطوال الأيام الماضية، وبعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات الأخيرة، صدرت بيانات ومواقف من عدد من شيوخ القبائل، سواء ممن خسروا الانتخابات أو من الذين فازوا بها، إضافة إلى التيار المدني، تُحاول جميعها تفسير ما جرى بوصفه مفارقة لافتة في بلد باتت هويته على المحك، بعدما مزّقتها المحاصصة المكوّناتية ذات الأبعاد العرقية (كرد وعرب وتركمان وكلدوا أشوريون) أو المذهبية (سنة وشيعة ومسيحيون).
ومع أن المحاصصة العرقية والمذهبية هي التي تسيّدت ولا تزال تتسيد المشهد العراقي على صعيد توزيع مناصب الرئاسات الثلاث (الجمهورية والبرلمان ورئاسة الوزراء) بين الكرد والسنة والشيعة، فإن الاصطفافات التي ظهرت بموجبها النتائج الحالية للانتخابات العراقية تضع المعيار النهائي للفوز هو الاصطفاف المذهبي أو القومي أو الديني، وليس العشائري، بوصفه بنية اجتماعية تقليدية أو مدنية، بوصفها النقيض التام لكل الانتماءات الحالية التي عززت فوزها، بما امتلكته من أدوات السلطة، وهي المال والنفوذ.
جيل رافض
السياسي والباحث العراقي، الدكتور طالب محمد كريم، يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «يمكن القول إن العشيرة والمدنية خسرَتا معاً، لا لأنّ المجتمع رفضهما، بل لأن المعادلة تغيّرت. فنحن أنهينا اليوم 6 دورات انتخابية، وخلالها نشأ جيلٌ عاش كل الخطابات السياسية والعشائرية والمدنية، وشاهد تحوّلات المنطقة والعالم، وتشكّل وعيه على مفاهيم جديدة تماماً».
ويضيف: «هذا الجيل لم يعد يستجيب للطائفية ولا للمناطقية، ولا حتى للعصبية القومية، هذه المفردات تراجعت لأنها لم تعد تعبّر عن فهمه للدولة، فهو يرى الدولة الآن باعتبارها خدمة وإدارة وإسعاداً للإنسان، ويرى السياسة مشروعاً لتحسين الحياة، لا استعراضاً رمزياً أو ولاءً اجتماعياً».
وأوضح كريم سبب خسارة المدنية والعشائرية في العراق من وجهة نظره، بقوله: «المدني خسر لأنه اكتفى بالشعار ولم يطوّر أدواته، والعشائري خسر لأن رمزية الماضي لم تعد تقنع ناخباً ينظر إلى العالم عبر شاشة هاتفه»، مبيناً أن «المعيار تغيّر؛ حيث إن الناخب اليوم يقيس المرشحين عبر جودة الخطاب، (برنامج الحزب، قدرته التكنولوجية، صورته المعنوية)، وكيف يفهم الدولة الحديثة… لا عبر هوية المرشح أو عمامته أو شعاراته، وهو ما يعني أننا أمام نسخة بشرية جديدة، تَغيّر وعيها فتغيّرت معها نتائج الانتخابات».
البديل غاضب
ومع أن بعض قوى التيار المدني تعزو الخسارة إلى قانون سانت ليغو الذي فصلته الأحزاب والقوى الكبيرة على مقاسها فإن بعض قوى التيار المدني هدّدت بتدويل الانتخابات العراقية.
من جهته، أعرب تحالف البديل، الذي يترأسه السياسي عدنان الزرفي، عن رفضه مسار الانتخابات البرلمانية التي جرت في العراق، مشيراً إلى «مؤشرات خلل خطيرة هدّدت مصداقية الاستحقاق الانتخابي».
وقال في بيان له «إن ما جرى لم يكن سوى تتويج لمسارٍ مقلق؛ حيث تحوّلت الانتخابات في تعامل بعض الكتل إلى صفقة لتقاسم النفوذ والسلطة، وليست تجسيداً حقيقياً للإرادة الشعبية».
وحمّل التحالف «الجهات الرسمية المسؤولة عن أمن الانتخابات ونزاهتها المسؤولية الكاملة عمّا آلت إليه الأوضاع»، وطالب بحماية عملية الاقتراع عملياً، «عبر إجراءات انتخابية واضحة وجريئة»، مردفاً: «سننتظر ردود فعل الجهات المعنية وموقفها الرسمي، قبل المضيّ قدماً في اتخاذ كل الإجراءات القانونية والمؤسساتية على المستويين المحلي والدولي».

