
باريس ـ حسين زلغوط
خاص ـ موقع “رأي سياسي”:

تعيش القارة الأوروبية هذه الأيام مرحلة اقتصادية حرجة تُنذر بتحديات غير مسبوقة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. فمؤشرات التباطؤ تتوالى، والمصانع تقلّص إنتاجها في ظل تراجع الطلب وتزايد تكاليف التشغيل، بينما تسعى الحكومات جاهدة لإيجاد توازن هشّ بين دعم النمو وضبط المديونية العامة. وفي قلب هذا المشهد المأزوم، تقف فرنسا التي هي ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو أمام معادلة معقّدة تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد، والإصلاح بالاحتقان الشعبي، في صورة تُجسّد مأزق أوروبا المعاصر بكل تناقضاته.
فالأرقام الرسمية الأخيرة كشفت عن ارتفاع معدل البطالة إلى نحو 8%، وهي نسبة تثير القلق في بلدٍ لطالما اعتُبر قاطرة الصناعة الأوروبية. في المقابل، قررت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون رفع الضرائب مجددًا بذريعة حماية المالية العامة ومواجهة تصاعد الدين العام، الذي تجاوز عتبة 110% من الناتج المحلي الإجمالي. غير أن هذه الإجراءات، التي يفترض أن تُعيد التوازن إلى الموازنة، تبدو بعيدة عن تحقيق هدفها الاجتماعي، إذ انعكست سلبًا على القدرة الشرائية للمواطنين، وعلى تنافسية القطاعات الإنتاجية التي تواجه أصلًا تحديات متزايدة في سوقٍ عالمية مضطربة.
لقد أدت زيادة الضرائب وخصوصًا تلك المفروضة على الطبقة المتوسطة وأصحاب المشروعات الصغيرة إلى تراجع الاستهلاك الداخلي، الذي يشكّل المحرك الأساسي للنمو الفرنسي، وتراجعت معدلات النمو الصناعي إلى أدنى مستوياتها منذ نحو عقد، فيما خفّضت العديد من الشركات إنتاجها أو نقلت بعض أنشطتها إلى دول أوروبية مجاورة حيث الكلفة التشغيلية أقل.
هذه التطورات جعلت الاقتصاد الفرنسي يبدو عالقًا بين مطرقة الديون وسندان البطالة، في وقتٍ تزداد فيه المطالب الاجتماعية والاحتجاجات الشعبية التي تعيد إلى الأذهان حركة “السترات الصفراء” التي هزّت فرنسا قبل سنوات.
ألشارع الفرنسي، الذي اعتاد التعبير عن غضبه عبر الإضرابات والتظاهرات، لم يعد يثق كثيرًا بالوعود الحكومية المتكررة بتحسين القدرة الشرائية أو إصلاح النظام الضريبي. فالإصلاحات التي تطرحها حكومة الرئيس ماكرون تُقدَّم غالبًا على أنها ضرورية لحماية الاقتصاد الوطني، لكنها تُترجم في الواقع إلى مزيد من الأعباء على الفئات المتوسطة والضعيفة، وإلى خفضٍ في الإنفاق الاجتماعي، وتراجعٍ في جودة الخدمات العامة. أما النقابات العمالية، فتواصل تعبئة قواعدها دفاعًا عن المكتسبات الاجتماعية التي تراها مهددة، في مشهد يعكس أزمة ثقة متفاقمة بين الدولة ومواطنيها.
وفي هذا السياق يحذر البعض من أن استمرار هذا النهج قد يُدخل فرنسا، ومعها الاتحاد الأوروبي، في حلقة انكماش اقتصادي ممتدة. فضعف الاستثمار الخاص، وتراجع الثقة في الأسواق، وتزايد الأعباء على القطاعات المنتجة، جميعها مؤشرات على ركودٍ يلوح في الأفق. كما أن ارتفاع أسعار الفائدة التي يقرّها البنك المركزي الأوروبي يزيد من كلفة الاقتراض الحكومي، ما يحدّ من قدرة الدولة على تمويل مشاريع البنى التحتية أو دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهي المحرك الحقيقي لأي انتعاش اقتصادي.
أما الدين العام الفرنسي، فقد أصبح أشبه بقنبلة موقوتة أمام أي محاولة لإصلاح مالي مستدام. فكل زيادة في خدمة الدين تفرض على الحكومة البحث عن موارد إضافية، وغالبًا ما تكون الحلول السريعة على حساب المواطن من خلال الضرائب غير المباشرة ورفع أسعار الخدمات، وبهذا تجد فرنسا نفسها عالقة في دائرة مغلقة: عجز مالي يدفع إلى مزيد من التقشف، وتقشف يولّد بطالة وغضبًا اجتماعيًا، وغضب يعقبه تباطؤ اقتصادي جديد.
في ظل هذه الصورة القاتمة، يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته امتحانًا صعبًا: كيف يمكن إنعاش الاقتصاد دون إثقال كاهل المواطن؟ وكيف يمكن تهدئة الشارع دون التفريط بالاستقرار المالي؟ إنها أسئلة معقدة تتطلب شجاعة سياسية ورؤية اقتصادية مبتكرة تتجاوز الحلول التقليدية. ففرنسا بحاجة إلى نموذج تنموي جديد يقوم على تحفيز الإنتاج، وتشجيع الاستثمار بدل إغراقه في الضرائب. دون ذلك، قد تجد باريس نفسها قريبًا أمام أزمة ثقة شاملة، لا بين الدولة ومواطنيها فحسب، بل أيضًا بينها وبين شركائها الأوروبيين الذين يتطلعون إليها بوصفها ركيزة الاستقرار في القارة العجوز.

