شكّلت نتائج الانتخابات المحلية التي شهدتها ولايات فيرجينيا ونيوجيرسي وكاليفورنيا ومدن كبرى مثل نيويورك، محطة سياسية لافتة في المشهد السياسي الأميركي، إذ تحولت إلى ما يشبه الاستفتاء على العام الأول من الولاية الثانية للرئيس دونالد ترمب. وتابع الأميركيون، الذين تسمّروا مساء الثلاثاء أمام شاشات التلفزيون لمتابعة نتائج فرز الأصوات، سلسلة الانتصارات الواسعة التي حققها الديمقراطيون، حيث فازوا فيها بحكام ولايتين رئيسيتين ورئاسة بلدية أكبر مدينة أميركية، في حين فشل الجمهوريون في تحقيق أي اختراق، رغم دعم ترمب المباشر لمرشحيهم.
رسالة قاسية إلى ترمب
يرى مراقبون أن الناخبين وجّهوا رسالة رفض واضحة لأسلوب ترمب وإدارته.

فالديمقراطيون، الذين ركزوا حملاتهم على ربط خصومهم بالرئيس الجمهوري، نجحوا في تحويل الانتخابات المحلية إلى تصويت احتجاجي على سياسات الرئيس. وفي فيرجينيا، التي تُعد عادة مؤشراً مبكراً لاتجاهات الرأي العام بعد عام من الانتخابات الرئاسية، فازت الديمقراطية المعتدلة أبيغيل سبانبرغر بمنصب الحاكم بفارق 15 نقطة، لتصبح أول امرأة تتولى المنصب في الولاية. وفي نيوجيرسي، فازت ميكي شيريل، النائبة السابقة والضابطة السابقة في البحرية الأميركية، بنسبة مماثلة، منهية بذلك آمال الجمهوري جاك تشيتاريلي الذي تبنى خطاب ترمب نفسه.
أما في كاليفورنيا، فقد دعم الناخبون «المقترح 50» الذي يتيح إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية بطريقة تعزز حظوظ الديمقراطيين في استعادة الأغلبية في مجلس النواب خلال انتخابات منتصف الولاية المقبلة. وجاءت نتيجة التصويت بمثابة تحدٍّ مباشر لترمب، الذي سعى في المقابل إلى تعزيز تمثيل الجمهوريين في الولايات المحافظة عبر خطوات مشابهة.
تحول في المزاج الشعبي
تشير نتائج الاستطلاعات إلى أن نسبة كبيرة من الناخبين عدّت التصويت في انتخابات الثلاثاء وسيلة لمعارضة ترمب، أكثر من كونها تأييداً للديمقراطيين.

ففي فيرجينيا ونيوجيرسي، لم تتجاوز نسبة تأييد ترمب 42 في المائة، وهي النسبة نفسها تقريباً التي حصل عليها مرشحو الحزب الجمهوري. الأهم أن الانتخابات كشفت عن تحوّل ملموس في القواعد الانتخابية. فقد استعاد الديمقراطيون تفوقهم بين الناخبين الشباب وناخبي الأقليات، بعد التراجع الذي أصابهم في انتخابات 2024 الرئاسية. وارتفعت نسبة تأييد الديمقراطيين بين اللاتينيين بـ9 نقاط في نيوجيرسي، و5 نقاط في فيرجينيا، فيما صوّت أكثر من 90 في المائة من السود لمرشحي الحزب.
إلى ذلك، استعادت ضواحي المدن الكبرى – ولا سيّما في مقاطعتي لودون وفيرفاكس بفيرجينيا – ولاءها للديمقراطيين بعد أن مالت نسبياً للجمهوريين العام الماضي.
هواجس ما قبل 2026
حملت النتائج إنذاراً مبكراً للجمهوريين الذين كانوا يعولون على نجاحات محلية لتأكيد متانة التحالف الذي أوصل ترمب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية.

ويقول مايكل دوهايم، المدير السياسي السابق للجنة الوطنية الجمهورية، إن «هذه النتائج سيئة للغاية للحزب، وهي مؤشر على أن الناخبين في الولايات المتأرجحة لا يزالون غير مستعدين لتكرار تجربة ترمب». ويرى خبراء أن ترمب لم يعد مكسباً انتخابياً في المناطق المعتدلة، بل عبء على مرشحيه، إذ تراجعت قدرته على جذب المستقلين والناخبين الوسطيين، فيما تزداد معارضته في المدن الكبرى وضواحيها.
وفي المقابل، أخفق المرشحون الجمهوريون في بناء هوية مستقلة عنه، كما لم يتمكنوا من تعبئة قواعدهم الانتخابية التقليدية بالحماس نفسه الذي أحدثه ترمب سابقاً.
ويعترف بعض الجمهوريين بأن خسارة فيرجينيا ونيوجيرسي بهذا الهامش الكبير تعني أن الحزب بحاجة إلى إعادة تموضع استراتيجي، خصوصاً في القضايا الاقتصادية والاجتماعية، بعيداً عن خطاب المواجهة والعزلة الذي يعتمده ترمب.
الانقسام الديمقراطي
في المقابل، فتحت الانتصارات المتتالية الباب أمام نقاش داخلي عميق بين جناحي الحزب الديمقراطي: الوسطي والتقدمي. فإلى جانب فوز سبانبَرغر وشيريل، حقّق الديمقراطي زهران ممداني، الموصوف بـ«الاشتراكي»، فوزاً مدوّياً بمنصب عمدة نيويورك، ما أدخل الحزب في جدل حول الوجه الذي يجب أن يُقدّمه للناخبين في المرحلة المقبلة.

يرى الجمهوريون أن ممداني، بوعوده اليسارية؛ مثل دعم النقل المجاني والإسكان الميسّر ورفع الضرائب على الأغنياء، يمثل «الوجه الحقيقي» للحزب الديمقراطي اليوم، ويعتزمون استخدام صورته في حملاتهم المقبلة لتصوير الديمقراطيين كـ«حزب اشتراكي متطرف». أما القادة الديمقراطيون، وعلى رأسهم زعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز، فيسعون لتقديم وجوه معتدلة مثل سبانبَرغر وشيريل بوصفهما النموذج الأقدر على مخاطبة الناخبين المستقلين وكسب المعارك المقبلة.
ويقول عضو الكونغرس السابق الديمقراطي، رام إيمانويل، إن «من يريد الفوز على المستوى الوطني يجب أن يخاطب سكان ضواحي نيوجيرسي وريف فيرجينيا، لا نخب بروكلين». ويضيف أن تجربة المرأتين الفائزتين تمثل «خريطة طريق» لاستعادة الأغلبية في الكونغرس عام 2026.
بين الإنكار والهجوم
لم يتقبل الرئيس ترمب الهزيمة بهدوء، إذ سارع إلى التشكيك في نزاهة الانتخابات، مُتّهماً كاليفورنيا بـ«تزوير واسع النطاق» في الاستفتاء على «المقترح 50»، ومهاجماً الناخبين اليهود الذين صوتوا لممداني ووصفهم ترمب بـ«الأغبياء»، في تصريحات عدّها البعض تحمل «إيحاءات عنصرية».

وبينما واصل انتقاداته للديمقراطيين على منصته «تروث سوشيال»، قال إن «حقيقة أن ترمب لم يكن على لوائح الانتخابات، بالإضافة إلى الإغلاق الحكومي هما السببان لخسارة الجمهوريين للانتخابات الليلة»، داعياً الكونغرس إلى إلغاء التصويت بالبريد و«إنقاذ المحكمة العليا من التغول اليساري».
لكن مراقبين يرون أن رد فعل ترمب الغاضب يعكس عمق الإحباط داخل البيت الأبيض، خصوصاً أن هذه الانتخابات تمثل أول اختبار فعلي لسياساته في الداخل بعد عودته إلى الحكم. وبحسب مستشاره السابق مارك شورت، فإن النتائج «تؤشر على تراجع حقيقي في المزاج الشعبي حيال أداء الإدارة، وخاصة في القضايا الاقتصادية التي كانت يوماً مصدر قوته».
تحديات 2026
بالنسبة للديمقراطيين، أعادت هذه النتائج الثقة بإمكان استعادة أحد مجلسي الكونغرس في انتخابات منتصف الولاية المقبلة. إذ يملك الجمهوريون حالياً أغلبية ضئيلة في مجلس النواب (219 مقعداً مقابل 213 للديمقراطيين)، ما يجعل أي تبدّل بسيط في المزاج الشعبي كفيلاً بقلب المعادلة. ويُعوّل الديمقراطيون على نجاحهم في كاليفورنيا لإضافة خمسة مقاعد جديدة بفضل إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية، تُقابل المقاعد الجمهورية الجديدة التي كسبها الجمهوريون من خلال إعادة ترسيم الدوائر، ولا سيّما في تكساس.

في المقابل، يحاول الجمهوريون امتصاص الصدمة والتأكيد أن انتخابات 2026 ستجري في ظروف مختلفة، خصوصاً إذا بدأت آثار التخفيضات الضريبية والسياسات الاقتصادية لترمب بالظهور. غير أن كثيرين داخل الحزب يُقرّون بأن استمرار الانقسام الداخلي، بين من يتمسكون بترمب ومن يدعون إلى تجاوزه، قد يضعف فرصهم في الحفاظ على الأغلبية.
لكن مما لا شك فيه أن الانتخابات الأخيرة أظهرت أن الولايات المتحدة تدخل مرحلة جديدة من الاستقطاب السياسي، حيث لم تعد المنافسة تدور فقط حول البرامج، بل حول هوية البلاد واتجاهها المستقبلي. وبينما يسعى ترمب إلى تثبيت نفوذه مستخدماً لغة المواجهة والتشكيك، يحاول الديمقراطيون استثمار اللحظة لإعادة بناء الثقة وإعادة تعريف «الوسط» الأميركي.

لكن الطريق إلى انتخابات 2026 لا تزال طويلة ومليئة بالمفاجآت. فكما أظهرت التجارب السابقة، يمكن أن تتبدل الرياح السياسية سريعاً في ظل اقتصاد متقلب وأزمات خارجية محتملة. ومع ذلك، فإن رسالة الناخبين هذا الأسبوع كانت واضحة: ترمب لم يعد محصناً انتخابياً، والديمقراطيون، رغم انقساماتهم، وجدوا مدخلاً جديداً لاستعادة زمام المبادرة.
وبينما يأمل البعض أن تمهد تلك الانتخابات لمرحلة جديدة من استعادة الوسطية على حساب الشعبوية من اليمين واليسار، تعكس نتائجها ديناميكية جديدة في السياسة الأميركية، وتسلط الضوء على تبدل أولويات الناخبين وتجدد اصطفافاتهم الحزبية. وتبقى الأسئلة مفتوحة حول قدرة الحزبين على استيعاب التحولات العميقة في المزاج الشعبي، ومدى استعداد القيادات الجديدة لصياغة خطابات وسياسات تلبي تطلعات فئات المجتمع المتنوعة.

