بينما يتراجع الحضور السائد للفن في مدن الحداثة، لصالح الشاشات والتطبيقات ولوحات الإعلانات، تأتي تجربة “صندوق الفن” في أمستردام، لتذكّرنا بأن الفضاء العام هو أكثر من شوارع للمرور، بل مخيّلة جماعية، ومرآة لعلاقتنا بما حولنا.
انطلقت مبادرة فنية مجتمعية حملت عنوان “صندوق الفن”، في شارع “فتندكاده” في مدينة أمستردام، المطلّ على القنوات المائية، بوصفها تجربة تشكيلية تسعى إلى إعادة تأهيل البنية التحتية كمساحة للتعبير البصري.
لا تدّعي هذه المبادرة أنها تقدم فناً نخبوياً، ولا ترفع شعارات كبيرة، لكنها تسعى إلى تحويل ما هو وظيفي مهمل جامد، إلى سطح تفاعلي حيّ.
تأتي أهمية المشروع من أنه لا ينطلق من داخل المؤسسات، بل من قلب الحياة اليومية التفاعلية. صناديق الكهرباء، تلك الكتل المعدنية المهملة، كانت بمثابة قُطع رمادية ملتصقة بجسد المدينة. تنتصب بشكل غير جمالي، وظيفتها تقنية، وجودها صامت، وغالباً ما تُترك للعبث العشوائي أو الملصقات الباهتة.
لكن في هذا المشروع، صارت تلك الصناديق مساحات تشكيلية صغيرة تُخاطب العين، وتدعو إلى إعادة النظر في ما نمرّ به كل يوم من دون انتباه.
بنية المشروع وروحه الفنية
جاءت المبادرة من الفنانة والمصمّمة الهولندية هايدي سميتس، والفنانة ليونة شرودر، تمّ تقديم المشروع ضمن برنامج الدعم الثقافي إلى بلدية أمستردام، وحصل على تمويل من مؤسسة “كوبو كو”. بعد دعوة مفتوحة، قُدمت عشرون فكرة فنية، اختيرت منها سبعة نُفِّذت خلال أشهر الصيف من عام 2025.
ضمّت قائمة الفنانين المشاركين: ريتا ألميدا، هايدي سميتس، ليونة شرودر، ستيفان ماكلنتوش، ديك يانسن، فيليبين روسكامب، وأولا فالك، الذين اشتغلوا على صناديق الكهرباء في الشارع ذاته تشكيلياً بأساليب متنوّعة تعكس الخلفيات الفنية المختلفة لكل منهم.
تقول الفنانة هايدي سميتس لـ”الشرق”:”لاحظنا أن شارعنا يضم العديد من الفنانين والمصمّمين، وقلنا لمَ لا نجعل الشارع يزخر بالفن؟ صناديق الكهرباء هذه كانت مهملة ومغطاة بالكتابات، لكنها بدت لنا كأنها لوحات تنتظر مَن يوقظها”.
أضافت: قدّمنا المشروع، وحصلنا على تمويل من البلدية. لم نضع شروطاً صعبة، بل طلبنا فقط أن يلتزم المشاركون بلوحة واحدة، حتى تتشكل علاقة بصرية بين كل صندوق وآخر”.
وأوضحت أنه بعد اختيار 7 مقترحات من أصل عشرين، اشتغل الفنانون على تنفيذ أعمالهم هذا الصيف. أصبح الشارع أكثر حياة، والأجمل في المدينة. بفضل هذه المبادرة، أتيح للعديد من الجيران فرصة التعرّف على بعضهم البعض”.
من الوظيفي إلى الجمالي
يمكن الحديث من خلال هذا المشروع عن نوع من التهجين الجمالي بين البنية التحتية والفن. لا تتجاهل الأعمال المنفذة طبيعة صندوق الكهرباء كمادة، بل توظّفها كجزء من التكوين. حيث السطح المعدني لا يُمحى، بل يُفعّل. الزوايا، الانحناءات، والمفاصل، تصبح عناصر حوار بصري مع التكوين الفني.
تتنوّع المقاربات بين استخدام التجريد الهندسي الصارم، حيث تتكرّر الخطوط بأبعاد متوازنة تحاكي الإيقاع البصري للبناء، وبين تركيبات تعتمد على الحركة العضوية، حيث تنساب الأشكال كما لو أنها تنمو من سطح الصندوق نفسه.
هناك مَن اختار الاشتغال بالظل واللون والكتلة، فحوّل الصندوق إلى مجسّم بصري ينبض بالحياة، فيما اعتمد آخرون على الرقة اللونية، والاشتغال على الذاكرة البصرية للمكان، بألوان تستدعي إحساساً بالسكينة والحنين.
ما يثير الانتباه في هذه التجربة، هو أن الفن لم يُستخدم لتغطية القبح، بل لإعادة تعريفه. فالصندوق الذي كان سابقاً عنصراً خاملاً، بات نشطاً في المشهد، له صوت بصري، وله علاقة عضوية بمحيطه.
بعض الأعمال تبنّت الحس الجرافيكي المرتبط بثقافة الشارع، خصوصاً من خلال التكوينات النصّية أو الأحرف الكبيرة التي تحاور المارّة، كأنها علامات طريق ملوّنة. فيما اشتغل بعضها بما يشبه الزخرفة المتكرّرة، أو استعارات نباتية تستحضر النموّ داخل المدينة.
اقتراح جمالي
إذا تأملنا المشروع من زاوية فلسفة الفن، نجد أنه لا يقدّم اقتراحاً جمالياً معزولاً، بل يُعيد النظر في مفهوم المرئي اليومي. فما كان يمرّ به الناس دون اكتراث، أصبح الآن يستوقفهم، يثير فضولهم، وربما يغيّر مزاجهم للحظة.
هذا جوهر ما يمكن أن نسميه الدهشة اليومية، أي ذلك الانكسار اللحظي في إيقاع الحياة، حين يتحوّل الجماد إلى حامل للمعنى.
إن خصوصية “صندوق الفن” تكمن في أنه لا يعرض الفن في الشارع فحسب، بل يجعل من الشارع ذاته معروضاً.
وفي السياق نفسه، يبرز في أمستردام أيضاً مشروع “بنن باوتن” الذي نظمته مؤسسة “دبليو جي كونست” على أرض مستشفى ” في جي” السابق في حي “آود فست”. أقيم المعرض من 18 يونيو حتى 21 سبتمبر 2022، وضم خمسين عملاً فنياً عُرضت داخل صناديق زجاجية صغيرة مثبّتة على أعمدة موزّعة في الفضاء العام.
حمل المشروع عنوان “المستقبل”، وشارك فيه فنانون محليون من سكان الحي ومحيطه. أتاح المعرض للزوّار التجوّل مجاناً بين الأعمال باستخدام خريطة ورموز شفرية للتعريف بالفنانين. تزامن المشروع مع الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس المؤسسة، وتخلّله برنامج ثقافي موازٍ. شكّل “بنن باوتن” تجربة فنية مجتمعية تدمج الفن بالحياة اليومية، وتفتح مسارات جديدة للتفاعل مع الفضاء العام.
فن الشارع: من أمستردام إلى طوكيو
تجد هذه التجارب التشكيلية صدى لها نوعاً ما في مشروعات مماثلة عالمياً. تجربة أغطية المجاري المزخرفة في اليابان مثلاً، التي بدأت منذ ثمانينيات القرن العشرين، عندما قررت البلديات أن تُحوّل الغطاء الحديدي إلى رمز بصري يعبر عن المدينة. ومن الزهور إلى الحيوانات والأساطير، ومن الألوان إلى النقوش، أصبح الغطاء نقطة تفاعل بين الفن والبنية.
ليست المقارنة هنا شكلية، بل بنيوية: حيث يتم إزاحة الوظيفي نحو الجمالي، ويُعاد تشكيل الفصل بينهما في المشروعات الثلاثة المذكورة. لا يأتي الفن من الخارج، بل يولد من صلب المواد التقنية للمدينة، ليصبح جزءاً منها.
بهذا المعنى، لا يمكن فهم “صندوق الفن” بوصفه مشروعاً تزيينياً فحسب، بل هو إعادة نظر في وظيفة الفن في المدينة. إنه اقتراح بصري واجتماعي يعيد تفعيل العلاقة بين الناس والمكان، بين العين والشارع، بين الصدفة والدهشة. وحين تصبح صناديق الكهرباء لوحات تشكيلية، فهذا لا يعني أن الفن نزل إلى الشارع فقط، بل إن الشارع نفسه صعد إلى مستوى التجربة الجمالية.

