بعد عامين من هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، الذي أشعل فتيل حربٍ دمّرت غزة وأودت بحياة أكثر من 67 ألف فلسطيني، حفر الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، اسمه في ذاكرة الشرق الأوسط بوقف إطلاق نار مؤقت استعصى على كل من سبقه، منذ انتصارات الرئيس الأسبق جيمي كارتر في كامب ديفيد عام 1978. فقد سعى كثير من الرؤساء الأميركيين إلى تحقيق انفراجة في الصراع المرير بين إسرائيل والفلسطينيين وحققوا نجاحات محدودة، وواجهوا عقبات وصعوبات وتحديات ضخمة.
ويقول الخبراء إن ما حققه ترمب من اتفاق مبدئي بين «حماس» وإسرائيل لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين قد يفتح آفاقاً جديدة للشرق الأوسط وفرصة لتحقيق سلام لأول مرة منذ اتفاقيات أوسلو.
سعت الإدارات السابقة وراء حلم إحلال السلام في الشرق الأوسط في كثير من الجولات والمحادثات، طمعاً في نتيجة تخلِّد أسماءهم في التاريخ، لكنَّ تلك الجهود باءت بالفشل رغم حسن النوايا وصدق الجهود. فقد انهارت محادثات كامب ديفيد في عهد بيل كلينتون (2000)، وفشل جورج بوش في أنابوليس (2007)، وفشل باراك أوباما في تجميد المستوطنات (2010)، وانهارت جهود جو بايدن تحت شعار نتنياهو «إنجاز المهمة».
حتى اتفاقيات أوسلو 1993-1995، التي اعتمدت على مبدأ الأرض مقابل السلام، ولّدت «شبه دولة » منزوعة السيادة والصلاحية ومتهمة بالفساد، مما أدى إلى تآكل الثقة وعرقلة حل الدولتين.
وقالت صحيفة «نيويورك تايمز» في افتتاحيتها صباح الخميس، إن ترمب يقف على عتبة أكبر إنجاز دبلوماسي في ولايته الثانية، وهو وقف الحرب والتوجه إلى مصر وإسرائيل للإشراف على وقف إطلاق النار واستقبال الرهائن، مما يرسخ له صفة «صانع صفقات» و«صانع سلام» ويمهد الطريق نحو جائزة نويل للسلام التي لطالما طمح إليها. لكنَّ الصحيفة مع اعترافها بأن ترمب حقق خطوة استثنائية لم يستطع أسلافه بايدن وأوباما وكلينتون، تحقيقها، رأت أن التحدي الذي سيواجهه هو الحفاظ على تماسك هذه الصفقة.
ما الذي اختلف؟
يظل التساؤل عمَّا إذا كان ترمب أفضل في نهجه من الرؤساء السابقين؟
يشير المحللون إلى أن ترمب تبنَّى براغماتية «مختلفة جذرياً» اعتمدت على التخلي عن الخرائط واستبدال «خلاطات الأسمنت» بها -من منطلق تفكير رجل العقارات- مع إعادة بناء غزة دليلاً على جدوى التعايش، وتهميش «حماس»، وتمكين التكنوقراط تحت مظلة «مجلس السلام» في تشكيل اليوم التالي في حكم غزة.
وتقول مجلة «إيكونوميست» إن ترمب اعتمد على نهج مختلف عن سابقيه من الرؤساء الأميركيين، وابتعد عن المفاوضات التي لا نهاية لها حول الخرائط والترتيبات الافتراضية لحل الدولتين، واعتمد نهجاً عملياً قائماً على الصفقات والتهديد، ورسم خريطة واضحة حول كيفية إعادة بناء غزة ومَن سيحكها، ومزج ترمب بين أسلوب «تعاقدي مُتسلط» مع استراتيجية التقارب الشخصي، والتركيز على فوائد التعايش بدلاً من التدمير، والاحترام الكبير للقوى العربية والإقليمية لحل صراعٍ أربك كلينتون، وبوش، وأوباما، وبايدن.
واعتمد ترمب على الثنائي ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر -لديهما نفس الذهنية العقارية لترمب- وقد قاما بجولات مزجا فيها ما بين إحياء اتفاقات إبراهام وإغراءات بتعهدات أمنية واستجابة لمطالب القوى الإقليمية، وإجبار نتنياهو على الاعتذار للدوحة، مما حفَّز الجهود للضغط على «حماس» للموافقة بإيجابية، يوم الجمعة.
تغيير الديناميكيات الدبلوماسية
يقول مسؤول أميركي، رفض نشر اسمه، إن الظروف تضافرت لتحقيق انتصار ترمب، فإسرائيل في موقف قوي بعد القضاء على «حزب الله» في لبنان وعلى «حماس» في غزة وضرب إيران، لكنْ دبلوماسياً صارت إسرائيل معزولة بشكل غير مسبوق مع دعوات عدد كبير من القادة الأوربيين إلى قيام «دولة فلسطينية». وأضاف: «لقد حرص ترمب على صداقته بالدول الخليجية، وأجبر نتنياهو على الاعتذار للدوحة، وحثَّ جميع المسؤولين المصريين والسعوديين والقطريين على التفاعل مع (حماس) والموافقة على خطة السلام التي وضعها البيت الأبيض».
يرى أرون ديفيد ميللر، من معهد «كارنيغي للسلام»، والذي عمل على ملف السلام في الشرق الأوسط في عدة إدارات ديمقراطية وجمهورية، أن «وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن ما كان ليحدث لولا ضغط الرئيس ترمب على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فلم يسبق لأي رئيس جمهوري أو ديمقراطي أن تعامل بقسوة مع رئيس وزراء إسرائيل في قضايا بالغة الأهمية لسياساته أو لمصالح بلاده الأمنية».
وأشار السيناتور ليندسي غراهام، الجمهوري من كارولاينا الجنوبية، إلى أن «أكبر إنجازات ترمب كان إشراك العالم العربي في التعامل مع القضية الفلسطينية، وأنه حظيَ بتقدير كبير في المنطقة، كما تعتقد إسرائيل أن ترمب هو أفضل رئيس منذ زمن طويل، وهذا هو ما أوصلنا إلي ما نحن عليه اليوم».
في المقابل، رفض فيليب جوردون، مستشار الرئيس السابق جو بايدن، روايات الإدارة الأميركية عن أن ترمب وحده استطاع أن يلوي ذراع نتنياهو، مشيراً إلى أن ترمب لم يفعل شيئاً تجاه الحصار الإسرائيلي لغزة والانتهاكات والتجويع. وقال: «أحد الأسباب التي وفَّرت لترمب فرصة أفضل من الرؤساء السابقين هي المناورات مع إيران وسيطرته على الحزب الجمهوري، ونفوذه الفريد على إسرائيل، وقدرته على التفاوض مباشرةً مع (حماس) لإطلاق سراح رهينة أميركي، وهو أمر لم يكن الرؤساء الأميركيون السابقون ليفعلوه ولكانوا ترددوا في القيام به». وأضاف جوردون أن ترمب كان لديه هامش للمناورة مع الحوثيين ومع الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، والتفاوض مع إيران، وكانت لديه المساحة لفعل ذلك بطريقة لم تكن متاحة لأوباما وبايدن.
مجلس السلام برئاسة ترمب
وبموجب خطة ترمب، المكونة من عشرين نقطة، ستشكّل المرحلة التالية حكومة تكنوقراط تعيد بناء غزة مع إقصاء «حماس» من السلطة ونزع سلاحها وتوفير قوة حفظ سلام دولية. وسيرأس ترمب مجلس إشراف (مجلس السلام) إلى أن يتولى الفلسطينيون المسؤولية بعد إصلاحات للسلطة الفلسطينية.
وتشير بعض استطلاعات الرأي إلى تفاؤل يبعث على الأمل في تحقيق انفراجات تؤدي إلى نهاية الحرب، مع تغيير في القيادة في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني أو إجبارهم على التخلي عن أي أدوار رسمية في غزة مع إجراء انتخابات في إسرائيل خلال 12 شهراً، قد تُفضي إلى رحيل نتنياهو ونهاية ائتلافه الحاكم مع أحزاب اليمين المتطرف.
ويقول محللون إن استطلاعات الرأي تُظهر ترمب على أنه رجل لا يخشى الضغط على إسرائيل بقوة، واستطاع مواجهة وإذلال النظام الإيراني ووكلائه، وتمكَّن من كسب احترام الدول الخليجية والإقليمية، ونجح في حثها على دفع تكاليف إعادة الإعمار والمساعدة في توفير الأمن.
العقبات
ورغم الإشادة والاحتفال والتفاؤل بما تحقق من اتفاق حول المرحلة الأولى، يُحذر المحللون من عقبات على الطريق، منها فقدان الثقة لدى الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بإمكانية السلام، وعقبات نزع سلاح «حماس»، والتساؤلات حول إعادة الإعمار والثغرات التي قد تشوب أسلوب الحكم ومجلس التكنوقراط. وتلوح في الأفق «أشباح أوسلو» وندوب غزة الغائرة، مما يتطلب أكثر من مجرد حبر على الورق.
وتقول صحيفة «فاينانشال تايمز» إنه لحماية ما تحقق من اختراق، سيتعيَّن على جميع الأطراف كبح جماح المحاولات الهدامة لدى كلا الجانين، ومنع أعمال العنف، ومساندة السلطة الفلسطينية في الإصلاح، وإيجاد قادة جدد. ويتعين على الرئيس ترمب الحد من توسيع المستوطنات الإسرائيلية والعمل بجدية على تعزيز المؤسسات الفلسطينية.
ووسط شكوك فلسطينية في مدى التزام إسرائيل بعدم عرقلة خطة ترمب، وعرقلة تشكيل حكومة تكنوقراط، وشكوك إسرائيلية في قدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم وتفكيك البنية التحتية للإرهاب وإصلاح المؤسسات، فإن الطريق سيكون طويلاً، ولن يكون سهلاً.