
كتب داود كتّاب في صحيفة العربي الجديد.
للمرّة الأولى منذ أكثر من ثلاثة عقود، يعيد الأردن فرض الخدمة العسكرية الإلزامية. سيقضي ستة آلاف شابّ (اختيروا بالقرعة) ثلاثة شهور في الخدمة العسكرية، يتلقّون تدريباً على الأسلحة، إلى جانب دروس في الهُويَّة الوطنية الأردنية، فيما تتجاهل مصر اتفاقية كامب ديفيد، وتدفع بقواتها إلى شمال سيناء لدرء احتمال تطهير عرقي إسرائيلي للفلسطينيين في غزّة.
ظاهرياً، تبدو إجراءات الأردن مبادرةً محلّيةً تهدف إلى تعزيز الوحدة، لكنّها في الواقع ردٌّ مباشرٌ على سياسات إسرائيل العدوانية المتزايدة في غزّة والضفة الغربية، وخارجها، وتذكير صارخ بأن الاستقرار الإقليمي لا يزال هشّاً، وأن أفعال إسرائيل لها تداعيات تتجاوز بكثير حدودها.
الجيش المصري في حالة تأهّب قصوى بأوامر مباشرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي
تأتي خطوة عمّان هذه في ظلّ تصاعد التوتّرات في جميع أنحاء المنطقة. ففي سيناء على سبيل المثال، نشرت الحكومة المصرية عشرات آلاف من القوات الإضافية في طول الحدود مع غزّة. وتفيد التقارير بأن حوالي 40 ألف جندي متمركزون حالياً في شمال سيناء، أي ما يقرب من ضِعف الحدّ الأقصى المنصوص عليه في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لعام 1979. وبحسب تقارير إعلامية، الجيش المصري في حالة تأهّب قصوى منذ سنوات، بناءً على أوامر مباشرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي. ووفقاً لمسؤولين مصريين، نيّة إسرائيل تفكيك حركة حماس في غزّة، وتشريد أعداد كبيرة من الفلسطينيين، أمران لا تقبلهما القاهرة، التي تخشى العواقب الإنسانية والأمنية للهجرة الجماعية إلى شمالي سيناء.
تعكس عودة الأردن إلى التجنيد الإجباري، ونشر مصر القوات، القلق نفسه: لم يعد التوسّع الإسرائيلي مجرّد قلق نظري. إنه واقع ملموس ومزعزع للاستقرار في الأرض. من الضفة الغربية إلى غزّة، تتقدّم آليات الاحتلال وتوسّع المستوطنات بجرأة متزايدة، ما يدفع الدول المجاورة إلى مواقف دفاعية. حتى داخل الهيكل السياسي الفلسطيني، الوضع مزرٍ. حكومة إسرائيل (اليمينية المتطرّفة) بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وبدعم من وزيرَي المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير، قوّضت المؤسّسات الفلسطينية بشكل منهجي. يُعدّ الحصار المالي الذي يفرضه سموتريتش على رام الله مُدمّراً بشكل خاص. تحتفظ إسرائيل بما يقرب من ملياري دولار من الضرائب والجمارك بموجب اتفاقات أوسلو، وهي أموال كان من المفترض أن تدعم الخدمات العامة الفلسطينية. في البداية، اقتطعت إسرائيل أجزاءً منها لمعاقبة مدفوعات عائلات الأسرى والشهداء، وعندما عولج الموضوع فلسطينياً، رفض سموتريتش ببساطة تحويل أيّ أموالٍ إلى الخزانة الفلسطينية في رام الله. أدّى هذا القرار فعلياً إلى شلل النظام المصرفي الفلسطيني وتآكل الإطار المالي الوحيد المسموح به تحت الإشراف الإسرائيلي. في غضون ذلك، دأب نتنياهو على رفض أيّ دور للسلطة الفلسطينية في المفاوضات المتعلّقة بغزّة، متجاهلاً مقترحاً عربياً لتنسيق الوضع في غزّة ما بعد الحرب… العواقب الإنسانية وخيمة.
تعكس عودة الأردن إلى التجنيد الإجباري، ونشر مصر القوات، القلق نفسه: لم يعد التوسّع الإسرائيلي مجرّد قلق نظري. إنه واقع ملموس
أثار حصار غزّة الإمدادات الغذائية والطبّية الأساسية غضباً عالمياً. حتى حلفاء إسرائيل المخلصون في أوروبا والولايات المتحدة صُدموا بصور المجاعة والمعاناة الجماعية. وبينما سارعت فرنسا ودول أخرى نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية ردّاً على ذلك. عزّزت إسرائيل سياساتها مدفوعةً (على ما يبدو)، ليس بحسابات استراتيجية، بل بحماسٍ أيديولوجي. أثار إعلان نتنياهو “رغبةً تاريخيةً وروحية في إسرائيل الكبرى” قلقاً في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك الأردن ومصر، وكلاهما تربطهما معاهدتَا سلام رسميّتَان مع إسرائيل. من المتوقّع أن يكون 80% من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، خلال اجتماعات المنظّمة المقبلة، قد اعترف بالدولة الفلسطينية، مع أربعة أخماس الأعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن أيضاً، في حين أن الدولة الفلسطينية في الأرض تتآكل يومياً من خلال سياسة التوسّع والاستيطان.
يُظهر توسيع المستوطنات، ولا سيما في الممرّ E1 الحسّاس شرقي القدس، نيّة إسرائيل ترسيخ سيطرتها على الأراضي الفلسطينية. يُهدّد إعلان سموتريتش البدء ببناء 3400 وحدة سكنية جديدة، على الرغم من الاعتراضات المتكرّرة من الولايات المتحدة وأوروبا، بقطع التواصل بين شمالي الضفة الغربية وجنوبيها، ما يحول عملياً دون قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافياً. فيما تستمرّ يومياً هجمات جماعات المستوطنين المدعومين من الاحتلال من دون عقاب، ما فاقم الأزمة.
الشرق الأوسط اليوم يشبه قطارين يسيران بسرعة عالية بعضه نحو بعض، والمنطقة في حالة تأهب قصوى، ولكن هل من عاقل له القدرة أن يوقف هذه القطارات المتّجهة نحو كارثة كبيرة؟