على رغم أن موسكو لا تزال تسعى للحفاظ على مصالحها في سوريا، فإن دمشق تسعى إلى إعادة هيكلة علاقتها معها على أسس جديدة…
شهدت العلاقات السورية- الروسية تحولات جذرية في الأشهر الأخيرة، من شراكة استراتيجية إلى حالة من إعادة التقييم والتجديد.
في هذا السياق، جرت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني والوفد المرافق له إلى روسيا في 31 تموز/ يوليو 2025، لتكون أول زيارة رسمية رفيعة المستوى بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول /ديسمبر 2024. وقد جرت الزيارة في ظروف دقيقة، إذ تعيش سوريا تحديات أمنية ومعيشية كبيرة، بينما تحاول روسيا إعادة ترتيب علاقاتها مع دمشق في ظل ضغوط دولية متزايدة.
تفاصيل الزيارة وأهدافها
رافق الوزير أسعد الشيباني في زيارته عددٌ من المسؤولين السوريين الكبار، بينهم ماهر الشرع، الأمين العام لرئاسة الجمهورية، ومرهف أبو قصرة، وزير الدفاع، وحسين سلامة رئيس جهاز الاستخبارات. وقد التقى الوفد السوري المسؤولين الروس الكبار مثل وزير الخارجية سيرغي لافروف، ووزير الدفاع أندريه بيلاوسوف، ومدير الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين. كذلك عقد لقاءً تاريخياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استمر ساعة.
تمثل هذه الزيارة أولى خطوات دمشق نحو إعادة بناء علاقاتها مع روسيا، بعد سقوط نظام الأسد، الذي شكل خسارة جيوسياسية كبرى لموسكو. الزيارة، كما ذكر الوزير الشيباني، تأتي في وقت حسّاس تواجه فيه سوريا تحديات داخلية وخارجية، خصوصاً مع استمرار الضغوط الغربية. هذه الزيارة تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات التي ستكون قائمة على الاحترام المتبادل والسيادة السورية، بعيداً من “إرث الماضي الثقيل”، كما عبر عنه الشيباني.
فعلى هامش الزيارة، استضافت الجالية السورية في روسيا لقاءً وطنياً أكد فيه الوزير الشيباني ضرورة بناء “سوريا جديدة” لكل السوريين. العديد من أبناء الجالية طرحوا مطالب تتعلق بكيفية إعادة بناء سوريا المستقبل، ومنها:
-تنظيف السفارة السورية من العناصر المتورطة في فساد النظام.
-فتح مدرسة سورية تستقطب الجالية السورية.
-إعداد قاعدة بيانات للكفاءات الوطنية المغتربة للاستفادة منها في بناء سوريا الجديدة.
فوائد الزيارة والمجالات المحتملة للتعاون
سوريا بحاجة ماسة لتنويع علاقاتها الدولية في مجالات اقتصادية وأمنية وعسكرية. وزيارة الشيباني إلى روسيا جرت في وقت دقيق، بحيث تحتاج دمشق إلى دعم موسكو في العديد من الملفات الحساسة مثل:
1-الاقتصاد: سوريا بحاجة لتوسيع تعاونها الاقتصادي مع روسيا خصوصاً في مجال النفط والغاز.
2-التعاون العسكري: موسكو يمكن أن تلعب دوراً رئيسياً في تدريب الجيش السوري وتسليحه.
3-الملف الإسرائيلي: روسيا تتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ويمكنها أن تساهم في تهدئة التوترات بين سوريا وإسرائيل، وتفعيل اتفاقات منع الاشتباك الموقعة 1974.
كما أن روسيا بحاجة إلى ضمان استمرار وجودها العسكري في سوريا، خصوصاً في القواعد العسكرية في طرطوس وحميميم، التي تمثل نقطة انطلاق استراتيجية لموسكو في الشرق الأوسط.
الموقف الروسي في مفترق طرق: بين دعم الأسد وفتح الأبواب للمعارضة
لطالما كان دعم الأسد هو جوهر السياسة الروسية في سوريا، وقد تجسد ذلك في التدخل العسكري الذي بدأ عام 2015، ولكن مع سقوط الأسد، باتت روسيا أمام خيارين رئيسيين: إما الاستمرار في دعم النظام السوري بشكل تقليدي، وإما التكيف مع التغييرات في سوريا والاعتراف بتشكيلة سياسية جديدة.
أحمد الشرع، الذي خلف بشار الأسد بعد انهيار نظامه، صرح علناً أنه يسعى لتفعيل العدالة الانتقالية في سوريا. وأكد ضرورة تسليم الأسد وحاشيته إلى المحاكمة بسبب جرائمهم بحق الشعب السوري، إضافة إلى استرجاع الأموال المنهوبة والمسروقة من البنك المركزي السوري. هذه التصريحات تمثل تحدياً كبيراً بالنسبة لموسكو، التي قد تجد نفسها في موقف صعب بين دعم الحليف القديم والقبول بمطلب الشرع.
ورغم ذلك، يبدو أن روسيا تسعى للاستفادة من وجودها العسكري في سوريا لإبقاء نفوذها في المنطقة. وتبدو قاعدة حميميم أحدى الأصول الحيوية التي لا يمكن لروسيا التفريط فيها بسهولة. هذا التحدي يتطلب من موسكو إعادة تقييم علاقاتها مع دمشق، ومحاولة الحفاظ على توازن بين الدعم العسكري والتحولات السياسية الجديدة التي تجري في البلاد.
الموقف الروسي في السياق الإقليمي
من خلال الاتصال الهاتفي بتاريخ 4 آب/ أغسطس الحالي بين الرئيس بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أكدت روسيا تمسكها بوحدة سوريا وسيادتها. هذا يشير إلى أن موسكو ما زالت تعتبر سوريا عنصراً أساسياً في استراتيجيتها الإقليمية، وأنها على استعداد لبذل أقصى الجهود في دعم التسوية السلمية للنزاعات في الشرق الأوسط، بما فيها الملف الإيراني. دعم موسكو لوحدة سوريا يأتي في وقت حساس للمنطقة، حيث يسعى العديد من الأطراف الإقليمية والدولية إلى إعادة تشكيل تحالفاتها ومصالحها في الشرق الأوسط.
هذه المواقف تعكس أهمية سوريا بالنسبة لروسيا، خصوصاً في إطار تنافس القوى الكبرى على النفوذ في المنطقة، وفي ظل التحديات الأمنية التي تهدد استقرار سوريا والمنطقة.
التحولات في السياسة السورية: روسيا بين الدعم والتحولات السياسية الجديدة
في ظل إدارة جديدة قد تكون أكثر انفتاحاً على الحلول السياسية وأقل تبعية لروسيا، ربما تجد موسكو نفسها مضطرة للتعامل مع الواقع الجديد. التيارات المعارضة سابقاً أصبحت جزءاً من المشهد السوري، الأمر الذي قد يتطلب من روسيا إعادة تقييم سياستها بشكل جذري. قد يكون من مصلحة روسيا الانفتاح على المعارضة السابقة أكثر من التمسك التام بحليفها السابق. لكن هذا الانفتاح يتطلب تحولاً كبيراً في السياسة الروسية، وهو ما يضعها في موقع تناقض داخلي مثل:
1- دعم للإرهاب: روسيا كانت تدعي طوال فترة دعمها للأسد أنها “تحارب الإرهاب”، وهي الحجة التي استخدمتها لإضفاء شرعية على تدخلها العسكري في سوريا. لكن اليوم، ومع تقدم المعارضة إلى مراكز الحكم، قد تجد روسيا نفسها في موقع لا يمكنها فيه التغاضي عن هذا التحول. هل سيتعين عليها الاعتراف بالواقع الجديد والمساهمة في تشكيل حكومة شاملة، أم ستستمر في دعم حكومة كانت تمثل، في نظر كثيرين، نظاماً قمعياً؟
2-التناقض في المواقف: رغم تأكيدات روسيا دعمها الكامل للوحدة السورية، فإن دعمها للنظام السابق أصبح يشكل نقطة ضعف في استراتيجيتها على المدى الطويل، خصوصاً مع احتمال عودة سوريا إلى العائلة العربية عبر المصالحة مع دول الخليج والضغط الغربي على موسكو لتغيير سياستها حيال دمشق. هل روسيا مستعدة لقبول “عدو الأمس” كصديق اليوم؟
اللقاء المرتقب بين الشرع وبوتين: اختبار العلاقات المستقبلية
إن اللقاء المرتقب بين الرئيس أحمد الشرع والرئيس بوتين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 سيشكل اختباراً حقيقياً لموقف روسيا في سوريا. بوتين الذي بنى نفوذه على مدار سنوات في دعم نظام الأسد، قد يجد نفسه أمام واقع جديد يتطلب مراجعة سياسته حيال دمشق، إذ إن الشرع، بشخصيته الجديدة في الحكم، ربما يحمل مفاتيح التغيير في السياسة السورية، بما في ذلك فتح أبواب جديدة أمام روسيا أو حتى فرض شروط على موسكو.
إلى جانب ذلك، من الواضح أن الشرع قد يسعى إلى تقديم سوريا على أنها دولة ذات سيادة كاملة بعيداً من أي تدخلات خارجية، ما يعني ضرورة تكييف موسكو لموقفها بما يتناسب مع هذا التحول. في هذا السياق، ربما تكون القمة الروسية – العربية في تشرين الثاني بداية لصفحة جديدة في العلاقات، بحيث يمكن أن تنتقل موسكو من دور داعم للنظام القمعي إلى شريك يتعاون مع القيادة الجديدة.
لقد استطاعت دمشق من خلال هذه التحولات أن تؤكد على استقلالها السياسي وسعيها نحو علاقات متوازنة مع القوى الكبرى مثل روسيا. وعلى رغم أن موسكو لا تزال تسعى للحفاظ على مصالحها في سوريا، فإن دمشق تسعى إلى إعادة هيكلة علاقتها معها على أسس جديدة، قائمة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
في النهاية، روسيا مطالبة اليوم بإعادة تقييم موقفها في سوريا، والتعامل مع القيادة الجديدة في دمشق بطريقة تتناغم مع التحولات الإقليمية والدولية. من خلال هذا التحول، قد تجد موسكو نفسها أمام تحديات جديدة تفرض عليها إعادة التفكير في علاقاتها مع سوريا، وأن أي تغيير في موقفها سيكون له تأثير كبير على مستقبل المنطقة.
المصدر: النهار