ما يزال مقهى “الحافة” في مدينة طنجة المغربية، محافظاً على طرازه التأسيسي الأوّل، منذ إنشائه عام 1921 في حيّ المرفأ، بهدف توفير مكان هادئ حينها، للتواصل المحلي بين أهل المدينة.
احتفظ المقهى على مدى قرن من الزمن، بمظهره البسيط ونمطه التقليدي، رافضاً العروض التجارية السياحية الضخمة، متمسكاً بروح المكان الأوّل.
بُني المقهى على جرف صخري يطلّ مباشرة على مضيق جبل طارق، ما يمنحه إطلالة خلابة على البحر الأبيض المتوسط حتى جنوب إسبانيا. يتألف من 5 طبقات مدرّجة ومنحدرة من السطح حتى المستوى الخامس، فيها طاولات صغيرة من الزليج المغربي (السيراميك)، وأحواض فخارية مملوءة بالنباتات، توحي بجو بسيطٍ وأصيل.
لا يتّبع المقهى موضةَ الفخامة، بل يجذب الزائرين إحساساً بالطبيعة والبحر، إلى جانب تقديم أنواع شاي بالنعناع والفطور البلدي المغربي.
شعراء أميركا في طنجة
شكّلت طنجة منذ منتصف القرن العشرين، فضاء فريداً للكُتّاب والفنانين الأجانب، أبرزهم بول بولز (1910–1999)، الروائي والشاعر الأميركي الذي استقر في المدينة منذ عام 1947 حتى وفاته، وجعل من مقهى الحافة، ملتقى أدبياً وعودة إلى الحلم كما قال:” أعود إلى مقهى الحافة وأواصل الحلم. غيّر الزمن كل شيء ما عدا هذا المكان، بقي سرّياً وهادئاً، كما كان في الماضي؛ ساحراً جيلاً بعد جيل”.
جعل بولز من طنجة موطناً دائماً له، ومركزاً للأدب العالمي، حيث ترجم أعمالاً مغربية مهمة، مثل رواية “الخبز الحافي” للكاتب المغربي محمد شكري، من مدينة طنجة، وسجّل الموسيقى الشعبية المغربية، كما كتب روايته الأشهر “السماء الواقية” التي كرّست صورته كرمز في الأدب الأميركي الحديث.
شهد المقهى أيضاً حضور الكاتب الأميركي ويليم بوروز (1914–1997)، أحد أبرز رموز جيل “البيت”، الذي عاش في طنجة بين 1954 و 1958 وأنجز فيها أجزاءً من روايته “الغداء العاري”، التي غيّرت تقنيات السرد عبر أسلوب مونتاج روائي (قطع وتركيب) .
كما زار المقهى الشاعر ألن غينسبرغ (1926–1997) بدعوة من بول بولز عام 1961، وهو شاعر قصيدة “عواء” الشهيرة التي أصبحت أيقونة لحرية التعبير. جعل هؤلاء الأدباء مقهى الحافة المطلّ على البحر، مكاناً مفضلاً للقاءاتهم وتأملاتهم، فصار رمزاً لحرية الفكر وفضاء للانفتاح الإبداعي، حيث مثّلوا الثقافة المضادّة الأميركية في أوجها، ووجدوا في طنجة فضاء للحرية بعيداً عن القيود الغربية، ما جعل المدينة حاضنة عالمية للإبداع، ومكاناً يتقاطع فيه الأدب والموسيقى والشعر، مع تجارب إنسانية متحررة.
في السينما الوثائقية
يظهر المقهى في الفيلم الوثائقي بعنوان “بول بول: الغريب الكامل”، فضلاً عن مشاهد من المدينة، ويتحدث فيه بول بولز عن اللقاءات مع الكاتب المغربي الشفاهي محمد مرابط، وألن غينسبرغ، وغيرهما داخل المقهى.
كما وصف المكان في كتابه مدينة “الألف والأضواء” قائلاً: “هنا يلتقي لاعبو الشطرنج، والشعراء، والكتّاب، والفنانون”.
أغنية للمقهى
أهدى الفنان الإسباني لويس إدواردو أوتي (1943–2020)، قصيدة للمقهى بعنوان “مقهى الحافة” ضمن ألبومه الموسيقي الصادر بين عامي (1992–1993).
يصف الصحفي الإسباني خيسوس كاباليرو الأغنية بأنها تستحضر: “مقهى الحافة الذي سيُكمل بعد عام قرناً من الوجود”.
كما تضمن نصّ الأغنية إشارات أدبية وصوراً شاعرية مرتبطة بالمكان، مثل جملة “عندما أحببتك، على شرفات مقهى الحافة”.
نال مقهى الحافة في طنجة اهتمام عدد من الصحفيين والكُتّاب الأجانب، الذين اعتبروه رمزاً للذاكرة الثقافية المغربية. وتناولت مقالات في الصحافة العالمية تاريخه الممتد منذ عام 1921، وإطلالته على مضيق جبل طارق، ودوره كملتقى لكُتّاب عالميين.
كما نُشر مقال خاص عن مقهى الحافة في تموز 2025، على موقع “إم دبليو إن لايف ستايل”، وهي منصّة تابعة لمجلة “موركو وورلد نيوز”، مركزّاً على تاريخ المقهى وأجوائه وارتباطه بالكُتّاب العالميين، بينما تناول الكاتب الاسباني خوان غويتيسولو المقهى في روايته “كونت جوليان”.
عبر الزمن، حافظ المقهى على سماته الفريدة، فضاء مفتوحاً، كتاباً، بحراً، ذاكرة، وشاهداً على عبور الأجيال وتحوّلات الفنّ والأدب في طنجة. كما تحوّل إلى أحد المعالم السياحية البارزة في المدينة، التي تشكّل جزءاً من الهوية العمرانية والثقافية، إلى جانب ما تزخر به من مواقع تاريخية أخرى.
يستقطب المقهى زوّاراً متنوّعين، سواء القادمين للإقامة في طنجة أو العابرين منها نحو وجهات مغربية أخرى، لما يوفّره من بيئة هادئة، تتيح فرصة الاسترخاء والاستمتاع بطابع المكان التقليدي.
تمّ إدراج المقهى ضمن لائحة الآثار الوطنية، بموجب قرار صادر عن وزارة الثقافة المغربية، إلى جانب مجموعة من المواقع التاريخية المصنّفة. ويقضي القرار بعدم السماح بإحداث أي تغيير في فضائه، إلا بعد إشعار الجهات المعنية.
أيقونة تاريخية
غير أن هذا الزخم الثقافي الذي ميّز المقهى منذ عشرينيات القرن الماضي، بدأ يتراجع تدريجياً مع مطلع سبعينياته. تغيّرت البنية الاجتماعية والثقافية للمدينة، وانتقل النشاط الإبداعي إلى فضاءات أكثر تنظيماً، مثل دور الثقافة والمراكز الأكاديمية الجديدة، ما أفقد المقهى دوره التقليدي بوصفه نقطة التقاء للكُتّاب والفنانين والشعراء.
لم يكن هذا التراجع معزولاً عن التحوّلات الكبرى التي شهدتها طنجة نفسها، من مدينة ذات طابع كوزموبوليتي مفتوح على التيارات الفكرية العالمية، إلى فضاء يتجه تدريجياً نحو السياحة الثقافية، بوصفها أولوية اقتصادية.
ونتيجة لذلك، اقتصرت وظيفة المقهى على استقطاب الزوّار المحليين والأجانب الذين يبحثون عن تجربة اجتماعية أو مشهد بانورامي يطلّ على البحر، بعيداً عن تلك اللقاءات الأدبية والفنية التي شكّلت في السابق جزءاً من هويته.
يجسّد المقهى ذاكرة حيّة لعصر ثقافي مضى، ورمزاً للحنين إلى زمن شهد حضور شخصيات أدبية وفنية بارزة ، لكنه في الوقت نفسه يعكس تحوّل المدينة ذاتها من مركز للنقاش الثقافي، إلى مقصد سياحي، يسعى إلى استثمار رمزيته الماضية.
هكذا تحوّل من فضاء للعنفوان الأدبي، إلى معلم سياحي تاريخي، يحمل الذاكرة الثقافية، أكثر مما يسهم في صناعة الحاضر الإبداعي.