في سباق الهيمنة على الذكاء الاصطناعي، تغدو الموهبة البشرية المورد الرئيسي له بدلاً من مجرد قوة الحوسبة أو البيانات.
سباق تسلح للفوز بالمواهب
ووراء كل إنجازٍ في مجال الذكاء الاصطناعي، يتناقص عدد العلماء والمهندسين ذوي المهارات العالية، لذا فقد أصبحت المنافسة العالمية على هذه العقول شرسةً كسباق التسلح في الحرب الباردة.
وبينما تحشد دول العالم جهودها لجذب باحثي الذكاء الاصطناعي، فإن الولايات المتحدة – الدولة التي تجتذب تقليدياً، المواهب العالمية – تُقوّض ريادتها من خلال سياسات الهجرة التقييدية والممارسات المؤسسية التي تُركّز الخبرات في عددٍ قليلٍ من الشركات القوية.
المعركة الجديدة على العقول
يبدو الآن أن شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى، مثل «أوبن إيه آي» و«أنثروبيك» و«ديب مايند» و«غوغل» و«ميتا»، تتنافس بشكلٍ أقلّ على حصة السوق، بينما تتنافس بشكلٍ أكبر على رأس المال البشري من الطراز الأول. تقدم هذه الشركات حزماً مالية ضخمة لاستقطاب فرق بحثية كاملة، بينما تستحوذ شركات التكنولوجيا العملاقة مثل «أبل» و«أمازون» على الشركات الناشئة بشكل رئيسي بسبب المواهب الموجودة فيها.
ويمول رأس المال الاستثماري بشكل متزايد عمليات التوظيف المستقطبة، مع إعطاء الأولوية للأفراد على المنتجات. تواصل مؤسسات أميركية مثل ستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكارنيجي ميلون، وبيركلي توفير الكثير من هذه المواهب، مما يعزز التركيز الشديد للقوة الفكرية في حفنة من الشركات والمناطق.
ابتكار قصير المدى… وهشاشة بعيدة المدى
يُسرّع هذا التكتل الابتكار قصير المدى، ولكنه يُولّد هشاشة طويلة المدى. إذ ومع هيمنة نفس الدائرة المحدودة من الخبراء على البحث، يُخاطر الذكاء الاصطناعي بأن يصبح أحادي الثقافة – مُقيداً بافتراضات مشتركة، ونقاط ضعف أخلاقية، وأولويات تجارية… مما يُضيّق التنوع الفكري في هذا المجال.
استجابة عالمية لكسب المواهب
في جميع أنحاء العالم، تُعامل الدول باحثي الذكاء الاصطناعي كأصول استراتيجية، إذ تُقدم فرقة عمل الذكاء الاصطناعي الرائدة في المملكة المتحدة تأشيرات سريعة لعلماء النخبة. ويُصدر برنامج المواهب العالمية في كندا تصاريح عمل في غضون أسابيع. وتجذب فرنسا الشركات بحوافز ضريبية ومنح بحثية.
في غضون ذلك، لجأت الصين – الممنوعة من استيراد الرقاقات المتقدمة بسبب قيود التصدير الأميركية – إلى تخريج أعداد هائلة من خريجي الذكاء الاصطناعي المدربين على نماذج المصدر المفتوح. وكما أشار أحد المحللين: «إذا لم تتمكن من استيراد الحوسبة، فأنت تستورد المواهب». في هذا النظام الجديد، أصبح الذكاء البشري هو «أشباه الموصلات الجديدة»!
«تخريب ذاتي» أميركي
على الرغم من ريادتها لصناعة الذكاء الاصطناعي، فإن الولايات المتحدة تُقيّد أهم ميزة لها: الانفتاح على المواهب العالمية، إذ يُهدد عداء دونالد ترمب المتجدد للهجرة بتقييد أو فرض ضرائب باهظة على تأشيرات الدخول المهمة، وهي المسارات التي يدخل من خلالها آلاف باحثي الذكاء الاصطناعي إلى البلاد. وخلال فترة ولايته السابقة، أضرّ تعليق مماثل للتأشيرات بمنظومة الابتكار الأميركية.
60 في المائة من كبار علماء الذكاء الاصطناعي في أميركا وُلدوا في الخارج
وبما أن 60 في المائة من كبار علماء الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة وُلدوا في الخارج، فإني أطلق على هذه السياسات اسم «التخريب الاستراتيجي». إذ وعندما تكون الميزة الرئيسية لأمة ما هي الموهبة، فإن إغلاق الباب أمامها يُعدّ شكلاً بطيئاً من أشكال التدمير الذاتي.
بينما تزدهر شركات التكنولوجيا بفضل المواهب العالمية، فإنها تُفاقم أيضاً من ندرة الكفاءات. فمن خلال تقديم رواتب فلكية وعقود مُقيّدة، تستنزف هذه الشركات أفضل عقولها في الأوساط الأكاديمية. ولم تعد الجامعات والمختبرات العامة – التي لطالما كانت مهداً لاختراقات الذكاء الاصطناعي – قادرة على المنافسة.
وقد أدت هذه «الهجرة الفكرية» إلى نقص التمويل في الأبحاث العامة واعتمادها على أجندات خاصة. ويعزز ترسيخ الخبرات داخل عدد قليل من الشركات التجانس الفكري، ما يُقلل من تنوع الأفكار اللازمة للابتكار التحويلي.
مخاطر جيوسياسية
لعقود من الزمن، كانت قوة أميركا تكمن في انفتاحها – في قدرتها على جذب العلماء والمبتكرين الطموحين من جميع أنحاء العالم. ولكن إذا ارتفعت حواجز التأشيرات واحتكرت الشركات المواهب، فقد يتغير مركز الثقل في مجال الذكاء الاصطناعي.
وتجتذب كندا والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة بالفعل الباحثين النازحين، بينما تواصل الصين تطوير منظومتها البيئية الخاصة بسرعة فائقة.
إن فقدان المواهب العالمية يعني فقدان التنوع الذي يُغذي الإبداع – وهي الصفة ذاتها التي جعلت الولايات المتحدة قوة لا تُقهر.
مخاوف أخلاقية بسبب هيمنة الشركات
علاوة على ذلك، يثير تركيز المواهب مخاوف أخلاقية، فعندما تسيطر بضع شركات على معظم خبرات الذكاء الاصطناعي في العالم، فإنها تُحدد المشكلات التي تستحق الحل. ويهيمن البحث المدفوع بالربح، بينما لا تزال المجالات الحيوية اجتماعياً مثل التعليم وعلوم المناخ والرعاية الصحية تعاني من نقص التمويل.
إن المرونة الحقيقية لا تتطلب قوة حاسوبية فحسب، بل تتطلب أيضاً تنوعاً في الفكر والخلفية والجغرافيا.
نحو عقد اجتماعي جديد
وأقترح هنا «عقداً اجتماعياً جديداً للذكاء»، يعترف بالمواهب البشرية كمورد استراتيجي مشترك. ويشمل ذلك سياسات الهجرة التي ترحب بالعقول العالمية، والتمويل الذي يحافظ على تنافسية البحوث العامة، وحظر عقود الحصرية الاستغلالية، والتعاون الدولي الذي يتعامل مع الذكاء الاصطناعي كمنفعة عامة، وليس سباقاً صفرياً.
في نهاية المطاف، لن يُحسم التنافس في القرن الحادي والعشرين بالأجهزة أو التنظيم، بل بمن يجذب أفضل المفكرين ويُمكّنهم.
ولا تزال أميركا تتمتع بهذه الميزة، لكنها تُخاطر بفقدانها بسبب الغطرسة والانغلاق. وإذا انغلقت الأمة التي اجتذبت ألمع عقول العالم على نفسها، فقد لا ينتهي قرن الذكاء الاصطناعي بضجة، بل برحيل مواهبها بهدوء.
* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».

