بين نار الحرب وطوفان المياه: عائلات باكستانية تهجر ديارها
على مقربة من الحدود الهندية – الباكستانية، اضطر آلاف المواطنين، الذين نزحوا سابقاً بسبب الصراع المسلح بين البلدين، إلى مغادرة ديارهم مرة أخرى، ولكن هذه المرة تحت وطأة فيضانات عارمة تجتاح المنطقة.
عبر أجيال متعاقبة، ألِفَت العائلات المقيمة في شرق باكستان، القريب من الحدود الهندية، التحركَ السريع عند اقتراب أي خطر. إلا أن هذا العام جاءت المصائب متتالية، حيث نزح شريف محمد وعائلته المكونة من سبعة أفراد مرتين: الأولى خلال الربيع إثر حرب قصيرة اندلعت بين البلدين، والثانية الأسبوع الماضي عندما غمرت الفيضانات قريتهم، حسب تقرير لـ«نيويورك تايمز»، الخميس.
يقول محمد، وهو تاجر ماشية: «أضحت تدريبات الإخلاء جزءاً من حياتنا بسبب التوترات الحدودية المستمرة، والآن جاءت الفيضانات لتُرغمنا على حمل أسرّتنا التقليدية وأكياس القمح ونقل الماشية إلى مواقع أكثر أمناً. الحرب والماء كلاهما جلب لنا الدمار».
وقد شمل النزوح القسري آلاف العائلات الحدودية، ومن بينها عائلة محمد، التي أُخليت في أبريل (نيسان) الماضي مع تصاعد التوترات بين البلدين بعد هجوم إرهابي في كشمير الخاضعة للإدارة الهندية، مما أدى إلى مواجهة عسكرية استمرت أسبوعاً كاملاً في مايو (أيار).
عادت عائلة محمد إلى ديارها بعد توقف القتال بفترة وجيزة، لكنها نزحت مجدداً الأسبوع الماضي بعدما فاض نهر «سوتليج» وغمر منزلهم.
تعرض عشرات الآلاف من الباكستانيين قرب الحدود لمثل هذه النزوح القسري مرات عديدة عبر السنين: في أثناء الحروب بين الهند وباكستان عامي 1965 و1971، وبعد هجمات مومباي عام 2008، وعندما ارتفعت حدة التوترات، وفي أثناء الفيضانات المدمرة عامي 1955 و1988.
وتتشارك باكستان والهند عدة أنهار رئيسية، من بينها «سوتليج» و«رافي»، ورغم أن هذه الأنهار دعمت سبل العيش لفترة طويلة، فإنها أيضاً غذّت الخلافات بين البلدين.
وقال المؤرخ إلياس تشاثا، المقيم في لاهور ومؤلف كتاب «أرض حدود البنجاب»، إن تغيّر مسارات الأنهار وطبيعة الأراضي النهرية عقّدت ترسيم الحدود لعقود. وأوضح أن هذه الأنهار المتقلبة غيّرت الحدود فعلياً، حيث نقلت نحو 18 ألف فدان إلى باكستان ونحو 16 ألف فدان إلى الهند بين عامي 1947 و1957.
وأضاف: «حتى عام 1975، ظل البلدان يكافحان للحفاظ على حدود ثابتة، إذ كانت العلامات تُجرفها الفيضانات أو يتلاعب بها السكان».
أما موسم الرياح الموسمية الحالي، فيعد الأسوأ منذ عقود في بعض المناطق، حيث أودى بحياة المئات في كلا البلدين وشرّد مئات الآلاف. وفي إقليم البنجاب الباكستاني، سُجلت 223 حالة وفاة على الأقل و648 إصابة حتى يوم الثلاثاء، مع تحذيرات من ارتفاع الحصيلة بسبب انتشار الأمراض في المناطق المغمورة.
والأسبوع الماضي، اتهم مسؤولون باكستانيون الهند بتفاقم الفيضانات عبر إطلاق المياه من السدود العليا باتجاه باكستان، مما تسبب في ارتفاع منسوب الأنهار بشكل أكبر. وقال المسؤولون إن الهند، رغم إبلاغها باكستان بنيتها إطلاق المياه، لم تحدد التوقيت أو الكمية كما ينصُّ الاتفاق المائي المُبرَم منذ عقود.
في المقابل، قال مسؤولون هنود إن ممثلي بلادهم في إسلام آباد، عاصمة باكستان، أبلغوا بالتحذيرات بشأن الفيضانات المحتملة في «بادرة إنسانية». لكن خلال الأعمال العدائية الأخيرة، علّقت الهند العمل بالمعاهدة الخاصة بتقاسم المياه، واتهمت باكستان جارتها بـ«تسليح المياه».
غير أن خبراء مستقلين شككوا في صحة الادعاءات بأن تصرفات الهند فاقمت الدمار بشكل كبير في باكستان.
وقال دانيش مصطفى، خبير البيئة الباكستاني وأستاذ الجغرافيا في كلية كينغز بلندن: «عندما تتجاوز المياه السعة التخزينية، فلا فرق إن كنت في الهند أو باكستان؛ لا بد من إطلاق المياه لإنقاذ السدود. ولا ننسى أن مئات الآلاف من الناس تضرروا أيضاً من هذه الفيضانات في الهند».
من جانبها، تساءلت صهيبة مقبول، خبيرة القانون الدولي والمحاضِرة في جامعة «لا تروب» في ملبورن بأستراليا، عن جدوى تعليق الهند للمعاهدة، مشيرةً إلى أنها لا تزال ملتزمة بواجبات دولية أخرى لمنع الوفيات وأضرار الممتلكات. لكنها أضافت: «في كل الأحوال، لم يكن شيء ليمنع هذا الطوفان. ماذا يعني تعليقها عملياً؟ لا يمكن السيطرة على المسارات الطبيعية للمجاري المائية».
ويوم الاثنين، حذّر مسؤولون باكستانيون من توقعهم أن ترسل الهند مزيداً من المياه عبر الحدود، مما سيزيد خطر الفيضانات المدمرة والخسائر الفادحة في المحاصيل والماشية. فقد غمرت المياه بالفعل حقولاً لا تُحصى من الأرز والذرة والبطاطا الحلوة.
وقال أكرم خاصخيلي، رئيس منظمة مستقلة لحقوق المزارعين: «في باكستان، لا يوجد نظام تأمين للمحاصيل أو الماشية، كما أن استجابة الحكومة المالية لا تغطي جميع الأضرار وغالباً ما تستثني المزارعين الذين لا يملكون أراضي».
وأضاف أن فيضانات عام 2022 قدّمت إنذاراً صارخاً بشأن اقتصاد باكستان وأمنها الغذائي، إذ ارتفعت بعدها أسعار المواد الأساسية لأشهر، وعانى ملايين الأشخاص لإطعام أسرهم.
بينما يلخص الشاب ناصر علي (26 عاماً)، وهو مزارع، المعاناة، بقوله: «النزوح ليس همنا الأكبر، بل همنا الحقيقي هو كيف نسدد ديوننا بعد خسارة محاصيلنا، سواء جاءت الفيضانات من الطبيعة أو من الهند».