وصل رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج الأربعاء، إلى العاصمة المصرية القاهرة، في زيارة تحمل بين طياتها رسائل سياسية واقتصادية ثقيلة الوزن. فعلى وقع تحولات جيوسياسية متسارعة وتحديات اقتصادية ضاغطة، تواصل مصر تعميق شراكتها مع الصين، مُعلنة بوضوح أن الرهان على الصين لم يعد خياراً هامشياً، بل توجهاً استراتيجياً متصاعداً.
فما الذي يجعل القاهرة تعول على هذه العلاقة؟ وما مكاسبها المرجوة من تعظيم التعاون مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم؟
كيف يسير تنفيذ المشاريع المعلن عنها؟
شهدت المشاريع الصينية الكبرى في مصر تقدماً ملموساً على مختلف الأصعدة. وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة في مايو 2025، يبلغ عدد الشركات الصينية العاملة في مصر 2800 شركة بإجمالي استثمارات تتجاوز 8 مليارات دولار. في تصريحات لـ”الشرق”، قال أحمد منير عز الدين، رئيس لجنة تنمية العلاقات مع الصين بجمعية رجال الأعمال المصريين، إن الصين تتميز على أي دولة أخرى في سرعة إقامة المصانع، مشيراً إلى أن مصر تتطلع إلى أن يتجاوز حجم الاستثمارات الصينية 15 مليار دولار خلال عام واحد.
فعلى سبيل المثال، في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، تتولى شركة الإنشاءات الصينية الحكومية (CSCEC) بناء منطقة الأعمال المركزية بتكلفة 3.8 مليار دولار، وأيضاً تتولى إدارتها وتشغيلها وصيانتها على المدى الطويل، حيث تحتضن المنطقة أكثر من 14 وزارة مصرية منذ مايو 2023. في قطاع النقل، دخل القطار الكهربائي الذي يربط العاصمة الإدارية بالقاهرة الكبرى حيز التشغيل بعد استثمار 1.2 مليار دولار وتنفيذ 15 شركة صينية.
أما في مجال الطاقة المتجددة، فقد وقعت شركة “سويس” لطاقة الرياح اتفاقية مع شركة “باور كونستراكشن” الصينية لبناء محطة رياح بقدرة 1100 ميجاواط في خليج السويس. في القطاع الصناعي، بدأ مصنع شركة “جيلي” الصيني الإنتاج في يناير 2025 بطاقة 30 ألف سيارة سنوياً، بينما وقعت شركة “الكان” المصرية اتفاقية مع “بكين أوتوموتيف” لإنشاء مصنع للسيارات الكهربائية بطاقة إنتاجية تصل إلى 50 ألف سيارة بحلول عام 2030.
كما أشار مصطفى إبراهيم، نائب رئيس مجلس الأعمال المصري الصيني، لـ”الشرق”، إلى أن المستثمرين الصينيين يمتازون بجديتهم وسرعة التنفيذ، مستشهداً بمشروعات منطقة “تيدا” بالعين السخنة التي تم فيها إنجاز 1.7 مليون متر مربع مع خطط للتوسع بـ7 ملايين متر مربع إضافية.
ما الذي تطمح إليه مصر من الاستثمارات الصينية؟
بحسب تصريحات وزير الاستثمار والتجارة الخارجية، حسن الخطيب، خلال منتدى الأعمال المصري الصيني الشهر الماضي، تسعى مصر إلى رفع ترتيب الصين من المرتبة العاشرة حالياً لتكون ضمن أفضل خمسة مستثمرين في البلاد. وتستهدف البلاد جذب استثمارات صينية جديدة بقيمة 500 مليون دولار على الأقل خلال عام 2025.
من جانبه، لفت عز الدين إلى أن مصر تستهدف جذب أكبر قدر ممكن من الاستثمار المباشر بالعملة الصعبة لتعويض تراجع إيرادات قناة السويس، وأن الشركات الصينية مهتمة بالتعاون في قطاعات تشمل الإنشاءات والمقاولات والصناعات الهندسية والمنزلية والإلكترونية والملابس الجاهزة ومواد البناء”.
أشار مجد المنزلاوي، رئيس مؤسسة رجال الأعمال المصريين-الصينيين، في تصريحات خاصة لـ”الشرق” إلى أن الحكومة المصرية تركز على استقطاب استثمارات تسهم في تدشين مصانع ومشروعات إنتاجية تدعم الناتج القومي وخطط التصدير.
من الناحية النوعية، تطمح مصر للاستفادة من التحول في الاستراتيجية الصينية التي تسعى لنقل العديد من مصانعها خارج البلاد بسبب التزامها بتقليل الانبعاثات الكربونية بحلول 2026. كما تسعى مصر إلى أن تكون منصة تصدير للشركات الصينية للوصول إلى الأسواق الأفريقية والأوروبية والعربية. وذكر مصطفى إبراهيم أن هذا التوجه يتماشى مع رغبة الصين في إيجاد بدائل تصديرية وسط الحروب التجارية، بينما لفت المنزلاوي إلى أن مصر تمثل وجهة بديلة للصين بفضل موقعها الاستراتيجي وأهمية السوق الأوروبية لديها.
ما الذي يعيق تعظيم الاستثمارات الصينية في مصر؟
تواجه الاستثمارات الصينية في مصر عدداً من التحديات، مثل صعوبة الوصول إلى التمويل، وتعقيد الرسوم الجمركية، والحصول على الأراضي. وذكر عز الدين أن أبرز المعوقات تتمثل في المواعيد، نظراً لالتزام الشركات الصينية بجداول صارمة، وأي تأخير في الإجراءات يؤثر سلباً على الاستثمار.
كما قال إبراهيم إن المعوقات تشمل البيروقراطية، وسعر الصرف، والتغير السريع في النظم والنسب الضريبية، مشدداً على ضرورة تحقيق نوع من الاستقرار التشريعي لتجنب تكرار تجارب سابقة أدت إلى خروج مستثمرين من السوق. وأكد المنزلاوي أن الروتين الحكومي لا يزال يشكل تحدياً رغم التقدم في منح التراخيص الذهبية.
ما هي المزايا التنافسية لدى مصر لاستقطاب الاستثمارات الصينية؟
تتمتع مصر بموقع جيوستراتيجي يجعلها همزة وصل بين أفريقيا وآسيا وأوروبا. قناة السويس تجعل مصر نقطة عبور حيوية للتجارة الصينية مع أوروبا، حيث تعتبر الصين أكبر مستخدم لقناة السويس وأكبر مستثمر في المنطقة الاقتصادية للقناة. كما أشار المنزلاوي إلى أن الصين تعيد ترتيب سلاسل الإمداد وتختار مصر كبوابة تصديرية للأسواق المرتبطة معها باتفاقيات تجارة حرة.
وتتوفر بمصر قوة عاملة كبيرة ومتنوعة، مع نظام تعليمي يخرج الآلاف من المهندسين سنوياً. وفي هذا الإطار، قال عز الدين إن الصين مهتمة بالمساهمة في عمليات إعادة الإعمار في الدول العربية، مستفيدة من توفر الخامات المصرية اللازمة للصناعات التحويلية.
كما تسمح مصر الآن بتسجيل الشركات الصينية باستخدام اليوان في التعاملات المالية، بدعم من البنك المركزي المصري، بحسب وزير الاستثمار والتجارة الخارجية المصري.
هل تلعب العوامل الجيوسياسية دوراً في تحقيق المزيد من الانفتاح بين البلدين؟
تعمل مصر على موازنة علاقاتها بين الشركاء الكبار، إذ استضافت في مايو 2025 “منتدى قادة السياسات المصري–الأميركي” بمشاركة أكثر من 55 من كبار التنفيذيين في شركات أميركية، مثل “آي بي إم” و”جنرال موتورز”، وأبدت استعدادها لإنشاء منطقة صناعية أميركية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
في المقابل، تسعى القاهرة لتعميق شراكتها مع بكين ضمن استراتيجية تنويع الشركاء، وتقليل الاعتماد على التمويلات الغربية. ويرى رئيس مؤسسة رجال الأعمال المصريين- الصينيين أن التوتر التجاري بين الصين وأميركا يعزز التقارب الاقتصادي بين القاهرة وبكين، ويدفع الشركات الصينية للبحث عن وجهات إنتاج بديلة مثل مصر.
ماذا عن الاستثمارات ونقل المعرفة في التكنولوجيات المتقدمة؟
تحتضن مصر عدداً من شركات التكنولوجيا الصينية مثل “هواوي” و”شاومي” و”أوبو” و”زد تي إي” و”مايديا” و”هاير”. كما أُنشئ صندوق استثماري بقيمة 300 مليون دولار مع جامعة “تسينغهوا” يركّز على الذكاء الاصطناعي وتصميم أشباه الموصلات. وأوضح مصطفى إبراهيم أنه يأمل بإنشاء قرية للذكاء الاصطناعي في مصر بالشراكة مع الصين، قائلاً إن دخول مصر هذا القطاع لم يعد خياراً بل ضرورة. وقد تم توقيع مذكرات تفاهم لإنشاء مصانع ألياف ضوئية ومراكز تصدير خدمات التعهيد، إلى جانب تأسيس مراكز تدريب وتأهيل متخصصين في البرمجة والشبكات.
ما المطلوب من الطرفين لتعزيز التجارة؟
بحسب تصريحات وزير الاستثمار والتجارة الخارجية المصري، خلال منتدى الأعمال المصري الصيني، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ نحو 17 مليار دولار خلال عام 2024، مقارنة بنحو 16 مليار دولار في عام 2023، بزيادة قدرها 6%، مشيراً إلى أن هذه الأرقام لا تزال دون الإمكانات الحقيقية للبلدين.
بالنسبة إلى مصر، فهي بحاجة إلى تبسيط إجراءات التخليص الجمركي، وتوسيع استخدام اليوان في المعاملات الثنائية. كما طالب عز الدين بتفعيل اتفاقية التبادل التجاري بالعملات المحلية لتقليل تكلفة التبادل. ولفت إلى أن تدشين سادس خط طيران مباشر بين مصر والصين، بواقع ثلاث رحلات أسبوعياً، يمثل خطوة مهمة لدعم التبادل السياحي والتجاري.
أما الصين، فيُنتظر منها فتح أسواقها أمام المنتجات المصرية عالية القيمة وخفض القيود غير الجمركية. وأشار المنزلاوي إلى ضرورة توسيع نفاذ السلع المصرية غير الزراعية للسوق الصيني، رغم ارتفاع معايير القيمة المضافة في الصين. كما تم مؤخراً افتتاح فرع لبنك مصر في الصين مما يسهم في تسهيل المعاملات التجارية بين البلدين. ورغم التحديات التي تواجه فكرة تبادل التجارة بالعملات المحلية في ظل سيطرة نظام “سويفت”، إلا أن هناك سعياً لتقليل الاعتماد على الدولار.
تعمل مصر حالياً على تنفيذ خطة طموحة لجذب مزيد من الاستثمارات الصينية مع تركيز أكبر على إقامة مشروعات صناعية وزراعية مشتركة. وأكد المنزلاوي أن مصر استقطبت استثمارات جديدة منذ بداية العام شملت توسعات صناعية وتجارب ناجحة في الزراعة واستصلاح الأراضي، خاصة في قطاع الملابس الرياضية. كما أشار إلى أن انضمام مصر والصين إلى تجمع “بريكس” قد لا يغير كثيراً من حجم التبادل التجاري المباشر، إلا أنه يمثل دعماً سياسياً للعلاقات الاقتصادية. وأكد أن السياحة الصينية تمثل فرصة واعدة لمصر التي تسعى إلى زيادة حصتها من هذا السوق الكبير عبر تنويع المقاصد السياحية وتعزيز الجذب.
ما أبرز العوائق في التجارة الثنائية؟
تواجه التجارة الثنائية عوائق هيكلية تتمثل في عدم التوازن في الهيكل الاقتصادي، حيث يعتمد الاقتصاد المصري بشكل كبير على الخدمات والزراعة، بينما يهيمن التصنيع على الاقتصاد الصيني، مما يخلق عدم توازن طبيعي في التبادل. بلغ حجم التجارة الثنائية 17 مليار دولار في 2024، لكن مصر تواجه عجزاً تجارياً مستمراً حيث تصدر الصين لمصر سلعاً بقيمة 13.3 مليار دولار مقابل استيراد سلع مصرية بقيمة 393.65 مليون دولار فقط.
المنتجات المصرية تواجه تحدياً في منافسة السلع الصينية من حيث السعر والجودة، خاصة في القطاعات الصناعية. كما أن الإجراءات المعقدة والطويلة في كلا البلدين تزيد من تكاليف التجارة وتقلل من تنافسية السلع، بينما يؤدي الاختلاف في معايير الجودة والسلامة بين البلدين إلى خلق حواجز تقنية أمام التجارة، خاصة في المنتجات الغذائية والدوائية. عدم الاستقرار في سعر صرف الجنيه المصري يزيد من مخاطر التجارة ويعقد التخطيط طويل المدى للمصدرين والمستوردين.
كيف تسهم عضوية البلدين في “بريكس” في تطوير العلاقات؟
تسهم عضوية مصر والصين في “بريكس” في تطوير العلاقات بين البلدين على عدة مستويات استراتيجية واقتصادية. أولاً، يتيح ذلك لمصر فرصة توسيع التعاون الاقتصادي مع الصين في إطار تجمع اقتصادي ضخم، حيث أشار رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إلى أن قمة “بريكس” في البرازيل تمثل منصة مهمة لدفع التعاون المشترك مع الصين في مجالات الاستثمار ونقل التكنولوجيا وتوطين الصناعة، خاصة في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
تسعى “بريكس” لتطوير آليات للتجارة بالعملات المحلية، وفقاً لما ورد في “إعلان قازان” الصادر عن القمة السادسة عشرة لمجموعة “بريكس” في أكتوبر 2024، الأمر الذي سيساعد مصر في تقليل الضغط على احتياطياتها من الدولار. من شأن هذا النظام أن يمكّن التجار المصريين والصينيين من التعامل بالجنيه المصري واليوان الصيني مباشرة، مما يقلل تكاليف الصرف ومخاطر تقلبات العملة.
بنك التنمية الجديد التابع لـ”بريكس” يوفر مصدراً إضافياً للتمويل التنموي خارج إطار المؤسسات المالية التقليدية، حيث تستطيع مصر الاستفادة من هذا البنك لتمويل مشاريع البنية التحتية والطاقة المتجددة.
وفي هذا الصدد، قال رئيس لجنة تنمية العلاقات مع الصين بجمعية رجال الأعمال المصريين، إن عضوية مصر في “بريكس” تسهم في دعم العلاقات الاقتصادية والاستثمارية المشتركة، مشيراً إلى أن فتح فرع لبنك مصر في الصين، بعد سنوات من افتتاح فرع للبنك الأهلي، يمثل خطوة مهمة لتسهيل التعاملات المالية مع السوق الصينية. كما شدد على أهمية تفعيل اتفاقية التبادل التجاري بالعملات المحلية لتسهيل وخفض تكلفة التبادل التجاري، وهي خطوة تتماشى مع توجهات “بريكس” نحو استخدام العملات الوطنية.
لفت نائب رئيس مجلس الأعمال المصري الصيني، إلى أن هناك فرصاً كبيرة لتصدير منتجات مثل المنسوجات القطنية، بالإضافة إلى الموالح والعنب والشوكولاتة، منوهاً بأن الأسعار المصرية تنافسية للغاية في السوق الصينية. من جانبه، أشار رئيس لجنة تنمية العلاقات مع الصين بجمعية رجال الأعمال المصريين إلى نجاح مصر في جذب أكبر أربع شركات صينية في مجال الأجهزة المنزلية، مما ساعد في تقليل فاتورة الاستيراد وتحسين الميزان التجاري، في ظل استيراد أجهزة بنحو 3 مليارات دولار سنوياً.
إلى ذلك، قال رئيس مؤسسة رجال الأعمال المصريين–الصينيين، إن تعزيز التجارة مع الصين يتطلب مزيداً من التسهيلات المتبادلة، مشيراً إلى أن الحكومة تعمل على معالجة العجز الكبير في ميزان المدفوعات لصالح الصين من خلال تحسين نفاذ المنتجات المصرية غير الزراعية إلى السوق الصينية رغم التحديات المرتبطة بمعايير القيمة المضافة.
يرى مصطفى إبراهيم أن مصر تمثل محوراً مهماً في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وأن الشركات الصينية تجد في مصر نقطة انطلاق مثالية إلى القارة الأفريقية في ظل الحروب التجارية العالمية. وأضاف أن مشروعات الصين في منطقة “تيدا” بالعين السخنة، والتي توسعت من 700 ألف متر مربع إلى مليون ثم 7 ملايين متر مربع، تعكس تنامي الطلب من الشركات الصينية على التوسع عبر مصر إلى الأسواق المجاورة.
من جهته، أشار المنزلاوي إلى أن نجاح مصر في تحسين بيئة الاستثمار عبر الرخص الذهبية وتيسير الإجراءات داخل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس من شأنه تعزيز دورها كبوابة رئيسية للصين إلى أفريقيا.