قبل خمسة قرون، حين كانت جيوش هرنان كورتيس تقترب من عاصمة الأزتيك في المكسيك، وقف الملك كواوتيموك مخاطباً شعبه قائلاً: “غابت شمسنا، لكنها ستعود من جديد”.
لم يكن حديثه نبوءة سياسية، بقدر ما كان دفاعاً شعرياً عن الذاكرة، عن حضارة آمنت بدوران الزمن بين الخلق والفناء. تلك الفكرة الميثولوجية الخالدة، ستجد مجازها المادي لاحقاً في “حجر الشمس”، أو تقويم الأزتيك، ذلك المونوليث الحجري الهائل، الذي صار اليوم قلب المتحف الوطني للأنثروبولوجيا في مكسيكو سيتي، وأحد رموز الوعي التاريخي المكسيكي.
افتُتح المتحف الوطني للأنثروبولوجيا عام 1964، ليكون حارس الذاكرة المادية للشعوب الأصلية في المكسيك. يروي المتحف قصة الثقافات والحضارات العديدة التي شكلت أميركا الوسطى قبل كولومبوس، بأسلوب شيق وسهل الفهم.
هو مستودع لأكثر من 13 ألف قطعة أثرية وإثنوغرافية، توثّق آلاف السنين من التاريخ. بدءاً من حضارات الأولمك والمايا والأزتيك، إلى ثقافات السكان الأصليين المعاصرة.
حاز المتحف مؤخراً على جائزة “أميرة أستورياس” لعام 2025، وهي واحدة من أرقى الجوائز الأوروبية. وجاء في بيان اللجنة أن المتحف فاز بها “تقديراً لدوره في الحفاظ على التراث الثقافي، وتجسيد الذاكرة التاريخية بطريقة تفاعلية ومعمارية استثنائية”.
يروي متحف الأنثروبولوجيا الوطني في مدينة مكسيكو قصة الثقافات والحضارات العديدة التي شكلت أميركا الوسطى قبل كولومبوس، بأسلوب شيق وسهل الفهم.
هندسة المعنى
صمّم المعماري المكسيكي بيدرو راميريز فاسكيز هذا الصرح المهيب، على هيئة تجمع بين الروح الطقسية القديمة والحداثة الجمالية. يمتدّ المتحف وسط غابة تشابولتيبيك الخضراء، على مساحة تعادل عشرة ملاعب كرة قدم. تحيط بها 22 قاعة موزّعة حول فناء مركزي ذي تأثير ماياوي.
كانت العديد من مجموعات المتحف الوطني للأنثروبولوجيا موجودة قبل افتتاح المبنى الحالي عام 1964 بوقت طويل. في عام 1790٠، زار العالم الألماني الكبير ألكسندر فون هومبولت ما كان يُعرف آنذاك بـ”خزانة التحف”.
وبحلول أوائل ستينيات القرن الماضي، أصبح من المعروف أن أعظم كنوز المكسيك، بحاجة إلى عرضها في مكان واحد كبير. تمّ تكليف المهندس فاسكيز بتصميمه. يتفق معظم الناس على أنه نجح بشكل يفوق حتى أعلى التوقعات، إذ أنشأ مبنى صمد أمام اختبار الزمن، وهو ما لم تحققه العديد من المباني في الحقبة نفسها.
سكن شعب الأزتيك المنطقة المحيطة بمدينة مكسيكو الحالية، وكذلك شعب المايا في شبه جزيرة يوكاتان. لكن المكسيك بلد شاسع ذو تاريخ قديم يعود إلى عشرات الآلاف من السنين. هناك عشرات الثقافات الأخرى في جميع أنحاء البلاد. وهناك في المتحف خارطة توضيحية للشعوب القديمة في المكسيك، بدءاً من ثقافة الأولمك الأم، وصولاً إلى هيمنة الأزتيك، التي دمّرها هيرنان كورتيس في لمح البصر.
مظلة شهيرة
يتوسط الفناء المظلّة الشهيرة، هي عبارة عن عمود برونزي ضخم، يحمل واحدة من أكبر الأسقف المعلّقة في العالم، رمزٌ للسماء التي تحمي الأرض. إلى جواره بركة مائية تذكّر بالماضي البحيري للعاصمة القديمة تينوشتيتلان، التي قامت على بحيرة واندثرت تحت طبقات المدينة الحديثة.
وصف الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، المتحف بأنه “أقرب إلى معبد، له جناحان وفي آخرهما حجر الشمس كأنه المذبح”. مضيفاً: “الدخول إليه يشبه العبور في عمارة صُنعت من مادة الأسطورة نفسه”.
قيام العالم وسقوطه
في الطابق الأرضي، يبدأ الزائر رحلته من عصر الأولمك، حضارة الأم في أميركا الوسطى، ليواجه الرؤوس العملاقة المنحوتة من البازلت بملامح بشرية غامضة. بعدها ينتقل إلى حضارة المايا، حيث يُعاد تمثيل تابوت الملك باكال، الذي يُصوّر عودته من العالم السفلي في هيئة بذرة ذرة تنبت من الأرض.
ثم تأتي قاعة الأزتيك، ذروة التجربة المتحفية. هناك يقف “حجر الشمس” كقرصٍ كونيّ يجسّد فلسفة الزمن الدائري، وتحيط به رموز الخلق والدمار، الحرب والتجدد. ومن خلفه تمتدّ قاعة تيوتيهواكان، التي أعيد فيها بناء واجهة هرم كيتزالكواتل إله الأفعى المريّشة، الرمز الذي يجمع بين السماء (الطائر كيتزال) والأرض (الثعبان كواتل).
أما في الطابق العلوي، فتُعرض المجموعات الإثنوغرافية، التي توثّق ثقافات السكان الأصليين في المكسيك اليوم. ملابسهم، أدواتهم، موسيقاهم، وطقوسهم، في امتداد رمزي يربط الماضي بالحاضر، وتصل إلى ما يقرب 5,765 قطعة.
يشير ليوناردو لوبيز لوجان، مدير المشروع الأثري لمعبد مايور، إلى أن المتحف “يحتفي بالماضي ويحاكي الحاضر، ويجمع بين قسمين رئيسيين: آثار حضارة الماضي، ودراسة الشعوب الأصلية في الحاضر”.
يقول: “كانت فكرة المتحف جزءاً من بناء هوية وطنية مكسيكية حديثة منذ القرن التاسع عشر، حين أنشأ أول متحف وطني. ثم تمّ تفصيل كل تخصص مع مرور الوقت، حتى تأسيس المتحف الوطني للأنثروبولوجيا”.
ذاكرة حيّة ومقصد عالمي
يستقبل المتحف الوطني للأنثروبولوجيا سنوياً أكثر من 3.7 مليون زائر. هذا يجعله من أكثر المتاحف زيارة في العالم، ومن أبرز الوجهات الثقافية في أميركا اللاتينية.
هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن غنى معروضاته، التي تتجاوز نصف مليون قطعة محفوظة في أرشيفاته. بل عن مكانته كجسر بين الماضي والحاضر، وفضاء حيوي لتأمل هوية المكسيك الثقافية والإنسانية.
في السنوات الأخيرة، أطلقت إدارة المتحف مشاريع ترميم وتوسعة، شملت افتتاح جناح جديد مخصص للثقافات الأصلية المعاصرة. يضم خمس قاعات تحتوي على نحو 6 آلاف قطعة إثنوغرافية. كما تم تعزيز البرامج التعليمية والتفاعلية، واستحداث ورش للأطفال والزوّار تتيح لهم تجربة عملية للحِرف والفنون القديمة، في محاولة لربط الجيل الجديد بجذوره التاريخية.
من خلال هذا الحضور البشري الكثيف، يواصل المتحف أداء دوره بوصفه “مستودعاً للذاكرة”، بل مختبراً حياً أيضاً، لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان وتاريخه، وبين الحضارة والطبيعة، وبين الأسطورة والواقع.

