أثار صدور قرار بإقالة رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي ومطالبته بأن يترك منصبه فوراً ابتداءً من الأربعاء، بلا إنذار مسبق، تساؤلات عديدة حول الأسباب الكامنة وراء هذا التحرك المفاجئ، وعما إذا كانت هذه الخطوة نتاج خلاف سياسي محض.
فقد كانت مواقف هنغبي المعلنة تنُمّ عن ولاء شديد لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وقد وقف معه في السراء والضراء، ودافع عنه في قضية الفساد، بل ورافقه إلى المحكمة، وكان من المفترض أن يكون «آخر من ينبغي التفكير في فصله».
لكنَّ هذا لم يكن كافياً في نظر عائلة نتنياهو، بحسب تقارير منشورة في وسائل إعلام عبرية، منها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أشارت إلى أن الزوجة سارة كانت تعتبر ولاءه منقوصاً، وأن ابنه يائير كان يرى أنه «ضعيف الإيمان» بوالده، واتهمه بأنه لا يقف معه بـ«إخلاص».
وتقول مصادر سياسية في إسرائيل، وفقاً لما ذكرته هيئة البث «كان 11»، إن هنغبي شعر بأجواء غير مريحة من حوله في الأيام الأخيرة، فتوجه إلى نتنياهو يوم الأحد الماضي وسأله عن وضعه، فأجابه: «هذه شائعات مغرضة… اطمئن. أنت مستمر في رئاسة مجلس الأمن القومي لفترة طويلة».
ولكنه، وبعد يومين فقط، أبلغه أنه قرر تعيين شخص آخر في المنصب.
وأصدر هنغبي، مساء الثلاثاء، بياناً أعلن فيه انتهاء ولايته، قبل أن يصدر نتنياهو بياناً بهذا الصدد.
وقال هنغبي في بيانه: «أُبلغت اليوم بنيّة رئيس الحكومة تعيين رئيس جديد لمجلس الأمن القومي، وبناءً على ذلك ستنتهي ولايتي اليوم كمستشار للأمن القومي ورئيس للمجلس. وقد شكرتُ رئيس الحكومة على الفرصة في سنوات صعبة لصياغة سياسة إسرائيل الخارجية والأمنية، وعلى إمكانية إبداء موقف مستقل في نقاشات حسّاسة».
وتر حساس
شدد هنغبي في بيانه على أن «المعركة المتعددة الجبهات لم تنتهِ»، وعلى أن مهمة إعادة جميع الأسرى «لم تكتمل بعد». وأضاف أن «الواجب لم يتحقق أيضاً لضمان إبعاد فصائل غزة عن الحكم ونزع سلاحها -سواء بوسائل سياسية أو عسكرية- وضمان ألا تنعكس من غزة أي تهديدات على إسرائيل».
لكن هنغبي مسَّ وتراً حساساً عندما دعا في بيانه إلى إجراء تحقيق شامل في إخفاقات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، قائلاً: «أنا شريك في الإخفاقات؛ يجب إجراء تحقيق جذري لضمان استخلاص العِبَر واستعادة الثقة التي تصدّعت».
كما شدد على ضرورة «الحفاظ على الإنجازات العسكرية والسياسية وتعزيزها»، مضيفاً: «الأولوية رعاية العائلات الثكلى والمصابين جسدياً ونفسياً». وختم بقوله: «الأهم هو مداواة جراح المجتمع الإسرائيلي وتعزيز الوحدة».
وفي أعقاب هذا البيان، أعلنت رئاسة الحكومة الإسرائيلية أن نتنياهو «يشكر» هنغبي على خدمته خلال الأعوام الثلاثة الماضية في رئاسة مجلس الأمن القومي، ويتمنى له «النجاح في مسيرته المقبلة». وأضافت أن نتنياهو قرر تعيين نائب رئيس المجلس، غيل رايخ، قائماً بأعمال رئيس مجلس الأمن القومي اعتباراً من الأربعاء.
وهنغبي واحد من عدد من الوزراء الذين يؤيدون تشكيل لجنة تحقيق رسمية في «إخفاقات» السابع من أكتوبر، ومن بينهم أيضاً وزير الزراعة آفي ديختر.
ويخشى نتنياهو تشكيل لجنة كهذه؛ فهي بموجب القانون تابعة لرئاسة المحكمة العليا، خصمه اللدود. كما أن هذه اللجنة لها صلاحيات من بينها توجيه اتهامات جنائية والتوصية بإقالة مسؤولين سياسيين وعسكريين. وهو يخشى أن توصي بمحاكمته بسبب إخفاقات السابع من أكتوبر. ولذلك، ولكي لا تنتشر هذه الظاهرة في «الليكود»، قرر إقالة أهم شخصية تؤيد إقامة لجنة تحقيق رسمية، حسبما أشار بعض التقارير.
«تكميم أفواه»
وانطلقت موجة عاصفة من ردود الفعل، إذ إن هذه الإقالة لم تأتِ صدفة في هذا الوقت بالذات، الذي يشهد حالة من عدم الرضا عن نتنياهو في اليمين عموماً، وفي حزب «الليكود» خصوصاً.
فبعض النواب وبعض الوزراء يتذمرون من قبول نتنياهو بخطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، واشتكوا من أنه وافق على «تدويل قضية الصراع» بعد 77 عاماً رفضت فيها إسرائيل مثل هذا التدويل.
كما يرصد البعض كيف يتجول مسلحو حركة «حماس» في غزة، ويقولون إن «حكومة اليمين الكامل» لم تفشل فقط في القضاء على الحركة، بل سكتت عن بقاء «حماس» كقوة عسكرية وبقوة «الحاكم» هناك.
ورغم منصب هنغبي العالي، فإن إقالته هو تحديداً كانت الأهون بالنسبة إلى نتنياهو؛ إذ لا ظهير سياسياً له في «الليكود». فقد ترك الحزب وذهب مع آرئيل شارون في سنة 2003 عندما انفصل عن «الليكود» لإقامة حزب «كديما». ثم عاد إلى «الليكود» قبل بضع سنوات. وفي الانتخابات الداخلية لقيادة الحزب وُضع في موقع متأخر، ولم يُنتخب للكنيست. لكن نتنياهو جلبه إلى جانبه، وعندما فاز بالحكم عينه رئيساً لمجلس الأمن القومي.
وخلال فترته، ضعفت مكانة المجلس في الحكومة ومؤسساتها. وعندما كان خبراؤه يختلفون مع نتنياهو، كان هنغبي يعرب عن موقف مؤيد لهم بهمس وبلا ضجيج.
ولأن هنغبي عاد إلى «الليكود» وحيداً، لم يكن له ظهير يستند إليه ولا مجموعة مقربين. لذلك اختير ليكون «درساً» لمن يفكرون في التمرد. وقد حذرت وسائل إعلام من أن هذه الإقالة ستؤدي إلى «تكميم أفواه» مسؤولين كبار قد يترددون في إبداء مواقف مخالفة لنتنياهو.
ونُشرت في إسرائيل تقارير أفادت بأن توجُّه نتنياهو للإطاحة بهنغبي بدا واضحاً في الأسابيع الأخيرة، بعد معارضته احتلال مدينة غزة في إطار عملية «عربات جدعون 2»، وتأييده «صفقة على مراحل» لتبادل الأسرى، ورفضه الهجوم الإسرائيلي على قطر لتصفية من تبقوا من قادة حركة «حماس» في وفد المفاوضات.
وقال هنغبي إن المواقف الإسرائيلية تثير موجة انتقادات في الولايات المتحدة، وقد عاقبه نتنياهو حين لم يدعُه لمرافقته في زيارته الأخيرة إلى واشنطن.
وقد حذر مراقبون من أن هذه الإقالة قد تدفع قادة الأجهزة والهيئات الأمنية إلى التردد في إعلان آرائهم المهنية إن هي خالفت توجّهات نتنياهو، بما يمسّ نقاشات غرف اتخاذ القرار.