لم تنهِ السنوات الستّ التي مضت على الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بلبنان، معاناة أبو زياد وارتياده شهرياً أحد المصارف في بيروت. يحمل دفتر حسابه بيد مرتجفة، ويأمل في أن يخرج ببضع أوراق نقدية لا تكفي سوى شراء دواء زوجته. يقول لـ«الشرق الأوسط» بغصّة: «ادّخرت أكثر من 100 ألف دولار خلال مسيرتي، واليوم لا أستطيع أن أسحب سوى 800 دولار، تتبخر قيمتها قبل أن أصل إلى البيت».
وأبو زياد، واحد من بين عشرات آلاف اللبنانيين الذين احتجزت المصارف مدخراتهم، ولا تُصرف إلا بالتقنين، بانتظار خطة حكومية لجدولة صرف الودائع.
ففي تصريح له، أكّد رئيس لجنة المال والموازنة البرلمانية، النائب إبراهيم كنعان، الخميس، أن «ودائع اللبنانيين مرتبطة بقانون الفجوة المالية واسترداد الودائع»، مضيفاً: «لم نرَ منذ 5 سنوات وحتى اليوم أي خطة».
وخلف هذا الموقف النيابي، تستمر معاناة آلاف المودعين عند أبواب المصارف. على مقربة من أبو زياد، تقف مريم، أم لطفلين، تحمل كشف حسابها الذي لم يتغيّر منذ سنوات. تروي لـ«الشرق الأوسط»: «كل شهر أذهب لأقبض 400 دولار بموجب التعميم، لكن المبلغ لا يكفي لنفقات الكهرباء والهاتف»، متسائلة: «كيف يمكنني أن أؤمّن قسط المدرسة والكتب والقرطاسية؟».
هذه الصور لم تعد استثناءً. منذ خريف 2019، تحوّلت حياة المودعين في لبنان إلى مشاهد انتظار طويلة، وودائع مجمّدة، وقيود غير مكتوبة. موظف يعمل في أحد المصارف يصف المشهد قائلاً: «المودع تحوّل من صاحب وديعة إلى شخص ينتظر قراراً جديداً من مصرف لبنان ليعرف قيمة المبلغ الذي يستطيع سحبه».
تعاميم مصرف لبنان
على مدار السنوات الست، عاش المودعون على تدابير مؤقتة. في عام 2019، فرضت المصارف قيوداً غير رسمية جمَّدت الحسابات، وأغلقت أبوابها أمام المودعين، قبل أن يصدر التعميم 151 عام 2020 الذي «سمح بالسحب من الودائع الدولارية، لكن بالليرة اللبنانية وبأسعار زهيدة».
وفي عام 2021، جاء التعميم 158 ليمنح المودعين بعض الأمل، إذ سمح بسحب 400 دولار نقداً و400 بالليرة شهرياً، ضمن سقف أقصى يبلغ 50 ألف دولار… تبعه في نهاية العام التعميم 161، الذي أطلق «منصة صيرفة» لتوفير الدولار النقدي وتهدئة السوق، لكنه توقف منتصف 2023، ليُستتبع في 2024، بالتعميم 166 الذي يستهدف الحسابات التي لم يشملها 158، وبدأ بسقف 150 دولاراً في الشهر، ليرتفع تدريجياً إلى 400 دولار. وفي 2025، رُفعت سقوف السحب، بحيث وصل التعميم 158 إلى 800 دولار شهرياً، والتعميم 166 إلى 400 دولار، لكن في الوقت نفسه صدر التعميم 169، الذي شدّد القيود، وجعل أي سحب يتجاوز هذه الحدود يحتاج إلى موافقة خطية مسبقة من مصرف لبنان.
أموال تبدّدت
قبل الانهيار، بلغت الودائع بالدولار نحو 125 مليار دولار، إضافة إلى 55 ملياراً بالليرة. لكن هذه الأرقام تلاشت تدريجياً. سمير، موظف في منتصف الخمسينات، يروي: «كنت أظن أن مدخراتي في المصرف ستكفي لتعليم أولادي في الخارج، لكنني اليوم أبحث عن منح دراسية بعدما ذاب رصيدي».
الأرقام التي يسردها الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين تؤكد هذه الخسائر، إذ يقول لـ«الشرق الأوسط»: «الودائع تقلصت اليوم إلى نحو 90 مليار دولار فقط، أي أن المودعين خسروا عملياً ما يقارب 35 مليار دولار، فضلاً عن تآكل شبه كامل للودائع بالليرة اللبنانية». ويُشدّد على أنّ «المطلوب اليوم خطة رسمية تُعيد الحقوق، وتمنع استمرار استنزاف الثقة بالنظام المصرفي».
السياسة تتقاذف المسؤوليات
في الممرات السياسية، لا يقلّ الغضب عن الشارع، لكن لغة الاتهامات تطغى على البحث عن حلول. النائب وضّاح الصادق يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن أموال المودعين لم تعد موجودة فعلياً، بعدما جرى تبديدها عبر سياسات الدعم والفساد والمحاصصة، وصُرفت لتغطية عجز السلطة وتمويل مصالح بعض الأشخاص».
ويضيف: «لو اتُّخذت الإجراءات الصحيحة منذ 2019، لكان بالإمكان حماية المودعين عبر خطة واضحة، تشمل ضخ السيولة وضبط التحويلات بقانون (كابيتال كونترول)». ويُشير إلى أنّ البرلمان أقرّ قوانين إصلاحية، منها رفع السرية المصرفية، وقانون إعادة هيكلة المصارف، لكنه يُشخّص المشكلة بالقول: «نحن أمام تركة ثقيلة راكمتها عقود من السياسات الخاطئة، والحل لن يكون بكبسة زر، لكنه يتطلَّب خطة شفافة ومحاسبة فعلية لكل من نهب أموال الناس».
الفقراء يدفعون الثمن مضاعفاً
يدفع الفقراء ثمن هذه الأزمة. يجلس أبو سامر، وهو سائق سيارة أجرة، في أحد مقاهي منطقة الحمرا في بيروت يروي قصته: «كان لديَّ 20 ألف دولار في المصرف، أصبحت اليوم أقبضهم بالقطارة، صرت أقتصد في الأكل، وأعمل ساعات إضافية فقط لأدفع إيجار المنزل».
في هذا السياق، يُعلّق المحامي علي عباس، قائلاً: «كشفت الأزمة عن حجم الفوضى والتمييز في إدارة أموال الناس، ففي حين استفاد أصحاب النفوذ من تحويل أموالهم إلى الخارج قبل الانهيار، وجد صغار المودعين أنفسهم أمام تعاميم وقيود قاسية».
ويضيف: «سُمح لهم بسحب مدخراتهم بالليرة على أسعار صرف منخفضة (3900 ثم 8000 ليرة)، ما جعلهم يخسرون معظم أموالهم».
ويرى أنّ «غياب قانون (كابيتال كونترول) منذ البداية سمح باستمرار النزف، وحمى المصارف من المحاسبة، في حين دفع المواطن الثمن كاملاً».
العودة إلى الطابور
6 سنوات مضت على الانهيار، ولا يزال المشهد يتكرر، مودعون يطرقون أبواب المصارف بحثاً عن فتات مدخراتهم، ومصارف محكومة للتعاميم، وسياسيون يتقاذفون المسؤوليات.
يقول عباس: «حتى منتصف 2025، لا تزال التعاميم تحكم حياة الناس، والودائع (الفريش) شحيحة، وصندوق النقد يُكرر أنّ إعادة هيكلة المصارف أولوية عاجلة، لكن الحل الجذري ما زال بعيد المنال، في ظل المماطلة السياسية وغياب خطة شاملة لتوزيع الخسائر وحماية صغار المودعين».