كتب سعيد محمد, في الأخبار:
لندن | في مسعى إلى إعادة هندسة العلاقات بين المملكة المتحدة وفرنسا، في حقبة ما بعد «بريكست» (تخلّي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبي)، وتعزيز تحالفهما العسكري – الأمني المشترك في ظلّ التحدّيات العالمية المتزايدة، أتت زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى لندن، واستغرقت ثلاثة أيّام، استُقبل فيها لدى مضيفيه بحفاوة بالغة؛ فالْتقاه الملك تشارلز الثالث، وتحدّث في جلسة خاصة إلى البرلمان البريطاني في ويسمنستر، وأجرى ووفده المرافق محادثات مكثّفة مع رئيس الوزراء، كير ستارمر، وكبار مسؤولي البلاد في عدّة مجالات ذات اهتمام مشترك.
وكانت لملفّ الهجرة حصّة وازنة في المحادثات بين ماكرون وستارمر، والتي أسفرت عن اتفاق نوعي يهدف إلى كسر نموذج عمل مهرّبي البشر بصيغة تجريبية جديدة، أُطلق عليها «واحد مقابل واحد». وبموجب هذا الاتفاق، ستعيد المملكة المتحدة عدداً من المهاجرين (غير الشرعيين) الذين يصلون في قوارب صغيرة إلى فرنسا، على أن تَقبل – في المقابل – عدداً من طالبي اللجوء من فرنسا، بعد إجراء الفحوص الأمنية اللازمة. وقال ستارمر، الذي يواجه والرئيس الفرنسي، كل في بلاده، ضغوطاً هائلة من قِبَل اليمين المتطرّف في شأن ملف الهجرة، إنّ «هذا الترتيب سيظهر أنّ محاولات عبور القنال الإنكليزي بقوارب صغيرة ستكون بلا جدوى»، متعهّداً بحملة لقمع «العمل غير الشرعي» لضمان عدم توفّر الوظائف التي يَعِد بها المهرّبون زبائنهم من المهاجرين.
ورغم عدم الكشف عن أرقام رسمية، فإنّ صحف لندن تكهّنت بأنّ ما يصل إلى 50 شخصاً قد تتمّ إعادتهم في المرحلة التجريبية أسبوعياً، الأمر الذي دفع خبراء إلى التشكيك في فاعلية هذا الاتفاق ما لم تكن الأعداد المرحّلة «كبيرة». كما أثيرت مخاوف في شأن التحدّيات القانونية والعملية، وخاصة في ما يتعلّق بكيفية تحديد مَن سيعود إلى فرنسا، وما إذا كانت الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي ستستقبل المهاجرين الذين قد يعودون إليها.
ولحظ مطّلعون على تفاصيل الاتفاق أنه يتضمّن تكثيف العمل المشترك في بلدان المنشأ والعبور، ما يستدعي توافقات عابرة للقارة قد لا تكون في متناول الرئيس الفرنسي. وأعرب ماكرون، من جهته، عن اعتقاده بأنه سيكون للاتفاق «تأثير رادع» يتجاوز الأعداد التي ستتمّ إعادتها، مشيراً إلى أنّ «بريكست» جعل من الصعب على المملكة المتحدة معالجة الهجرة غير الشرعية لوحدها، وأنّ الشعب البريطاني قد «بيع كذبة مفادها أنّ المشكلة كانت أوروبا».
أمّا الملف الآخر المهمّ على طاولة مباحثات ماكرون – ستارمر، فكان مشاريع الطاقة النووية المدنيّة التي لطالما تصدّرت أولويات العلاقة بين البلدَين. فقبل 17 عاماً، اتفق رئيس الوزراء آنذاك جوردون براون، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، على تعزيز الروابط في هذا المجال، وأعطي على إثر ذلك الضوء الأخضر لشركة الطاقة الفرنسية المملوكة للدولة، «EDF»، كي تتولّى توسعة محطتَي «هينكلي» و«سيزويل» البريطانيّتَين، في ما عدّ عصر الطاقة النووية المدنيّة «الذهبي»، و«أحد الركائز الأساسية للعلاقات الفرنسية – البريطانية».
لكنّ سنوات من التأخير وتضخّم التكاليف، أجبرت المملكة المتحدة على الالتزام بضخّ 14.2 مليار جنيه إسترليني إضافية لإنجاز المرحلة C من محطّة «سيزويل»، فيما تعثّر مشروع «هينكلي» في ظلّ عدم توفُّر تمويل من القطاع الخاص لتغطية الفجوة المتفاقمة في الموازنة، ما قد يحتّم اللجوء إلى الموازنات العامة، المضغوطة أصلاً.
كان لملفّ الهجرة حصّة وازنة في المحادثات بين ماكرون وستارمر
ومع تزايد حاجة بريطانيا إلى الطاقة، فإنّ لندن تظهر الطرف الأضعف في هذه المفاوضات، فيما لا تبدو فرنسا في عجلة من أمرها. إذ ستنتظر الأخيرة استثمارات بريطانية لدفع المشروعَين قُدماً، بالنظر إلى أنّ البديل العملي الوحيد لـ«EDF» لن يكون سوى الصين، في وقت تحرص فيه السلطات البريطانية على إبعاد يد بكّين عن هذا القطاع الإستراتيجي الحيوي.
وفي ظلّ التوجّس المتعاظم في السياق الإقليمي، وبخاصة مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وكذلك التصعيد التجاري مع الحليف الأميركي، تعزّزت أهمية ملفّ التعاون المشترك بين المملكة المتحدة وفرنسا في مجال الصناعات الدفاعية؛ علماً أنّ هناك بالفعل روابط قوية بين الصناعات الدفاعية للبلدَين، إذ توظّف شركة الدفاع الفرنسية، «تاليس»، أكثر من 7000 عامل في 16 مصنعاً لها عبر المملكة المتحدة. لكن العلاقة شهدت بعض التوتّر في الآونة الأخيرة، بعدما ضغط الدبلوماسيون الفرنسيون لمنع مشاركة المملكة المتحدة في صندوق الدفاع الأوروبي المعروف باسم «توفير الأمن لأوروبا» (SAFE)، والذي تبلغ قيمة موازنته 150 مليار جنيه إسترليني.
على أنّ بريطانيا وقّعت اتفاقاً دفاعياً مع الاتحاد الأوروبي، ما سمح لشركاتها بأن تكون على قوائم المورّدين للدول الأعضاء، وأمكن ماكرون وستارمر العمل على إعادة ضبط العلاقة في هذا المجال، والتحضير لاقتناص فرصة الزيادة غير المسبوقة في الطلب، لا سيّما بعد إعلان «حلف شمال الأطلسي» في لاهاي عن التزام أعضائه برفع مستوى إنفاقهم العسكري إلى مستوى 5% من الدخل القومي السنوي، في السنوات القليلة المقبلة.
كذلك، أعلن الزعيمان توافقهما على تنسيق ردع بلديهما النووي، ممّا يعني أنّ جيشَيهما سيقومان بتعبئة أسلحتهما بشكل مشترك في حالة وقوع هجوم يستدعي ردّاً نووياً، بالإضافة إلى تعزيز التعاون في مجال الحواسيب الفائقة والذكاء الاصطناعي، وفي صناعة الصواريخ المضادّة للسفن أيضاً.
وبعيداً من الأمن والعسكرة، مثّلت زيارة ماكرون فرصة حاسمة لتحقيق اختراق في ما يتعلّق بالتبادلات التجارية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بعد سنوات من التشوّش الناتج من «بريكست»، والذي أدّى إلى تراجع كبير في صادرات لندن إلى البرّ الأوروبي، بما في ذلك فرنسا – خامس أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة -، حيث يبلغ حجم التجارة السنوية بين البلدَين حوالي 6% من إجمالي التجارة العالمية لبريطانيا. لكن لندن تستورد من باريس أكثر ممّا تبيعه لها، وقد بلغ العجز التجاري بينها وبين الأخيرة حوالى 12 مليار جنيه إسترليني العام الماضي.
ورغم التعافي التدريجي في حجم التجارة عبر القنال الإنكليزي بعد «صفقة إعادة تنظيم العلاقة مع الاتحاد الأوروبي» التي أبرمها ستارمر مع بروكسل، في أيار الماضي، إلا أنّ صادرات السلع البريطانية إلى الاتحاد الأوروبي لا تزال أقلّ من مستوياتها قبل «بريكست». ويراهن قادة الأعمال في كلا البلدين على أنّ مباحثات ماكرون – ستارمر، وبحكم موقع فرنسا المهمّ في الاتحاد الأوروبي، ستمهّد الطريق لتذليل أيّ صعوبات متبقّية لاستعادة حيوية التبادلات التجارية.
وفي ختام الزيارة، دعا كل من ستارمر وماكرون – في بيان مشترك – إلى «الصبر» و«التعاون» في عالم يتزايد فيه الغضب الشعبيّ من السياسات الليبرالية التقليدية، فيما السبيل الوحيد لمواجهة صعود حركات اليمين المتطرف – مثل «حزب الإصلاح» في المملكة المتحدة، و«التجمع الوطني» في فرنسا – هو إظهار أنّ «السياسة البراغماتية وحدها تحقّق النتائج التي تهمّ شعبينا». وشدّدا على ضرورة الاعتراف بـ«تعقيد العالم» وتجنّب «إغراء السياسات ذات الإجابات السهلة» التي تروّجها الحركات الشعبوية، على حدّ تعبيرهما.