
حسين زلغوط
خاص ـ “رأي سياسي”:

في لحظة سياسية شديدة الحساسية، اختار رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون أن يجعل من خطابه بمناسبة عيد الاستقلال حدثاً يتجاوز الطابع الاحتفالي التقليدي. جاءت كلمته بعد زيارة ثكنة بنوا بركات في صور، في خطوة حملت دلالات واضحة تتصل برمزية الجنوب، وتاريخ المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وموقع الجيش اللبناني في رسم المرحلة المقبلة. وقد بدا الرئيس عون وهو الرئيس اللبناني الوحيد الذي القى خطاب “الاستقلال” من الجنوب، كمن يفتح نافذة جديدة في مقاربة ملف الصراع مع إسرائيل، حين شدد على ضرورة تثبيت الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية، مقابل استعداد لبنان للانخراط في مسار تفاوضي واضح الشروط والمعالم.
منذ اللحظة الأولى للزيارة، كان واضحاً أنّ الرئيس أراد الإضاءة على دور المؤسسة العسكرية بعيداً من السجالات السياسية الداخلية. فاختياره الجنوب، وتحديداً ثكنة تحمل اسم الضابط الشهيد بنوا بركات، لم يكن تفصيلاً عابراً. أراد القول إن الاستقلال ليس مناسبة بروتوكولية، بل فعل صمود وتراكم تضحيات. وهذا السياق منح خطابه وزنًا مضاعفًا، خصوصاً أن الجبهة الجنوبية تعيش منذ أشهر توترات ميدانية متقطعة تذكّر بأنّ الاستقرار لا يزال هشّاً، وأنّ أي قرار سياسي يُبنى اليوم ستكون له انعكاسات مباشرة على أمن الحدود.
في الشق المتعلق بالانسحاب الإسرائيلي، بدا الرئيس حاسماً في تأكيده أنّ الدولة اللبنانية لا تزال تعتبر الاحتلال خرقاً بنيوياً لسيادة البلد، وأنّ تثبيت الانسحاب بشكل كامل غير قابل للمساومة، ذلك أن الجنوب، برمزيته التاريخية، ليس مجرد منطقة حدودية، بل مساحة تختزن ذاكرة الغزو والمجازر والاحتلال والمقاومة، ما يجعل أي مقاربة للملف الإسرائيلي مرتبطة عضوياً بمعنى الاستقلال نفسه.
وفي هذا السياق، يمكن قراءة كلام الرئيس على أنّه رفع لسقف الموقف الوطني، وتذكير بأنّ المفاوضات – إن حصلت – لا يمكن أن تكون على حساب الثوابت.
أما النقطة الأكثر إثارة للانتباه، فكانت إعلان استعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل. هذه العبارة، جاءت بصياغة مدروسة، تحمل رفضا قاطعا لأي تخلي عن السيادة. فالرئيس لم يطرح التفاوض بوصفه خطوة تطبيعية، بل كآلية ضرورية لترتيب الملفات العالقة، من ترسيم الحدود البرية والبحرية، إلى ضمان أمن الجنوب. وقد بدا أن الرئيس يقارب هذا الملف بروحية الدولة التي تبحث عن تثبيت حقوقها عبر أدوات القانون والديبلوماسية، وليس بمنطق المساومة أو التخلي.
كما أن وضع هذا الطرح في سياق عيد الاستقلال أعطاه بعداً رمزياً إضافياً. ففي تاريخ لبنان الحديث، لم يكن الاستقلال يوماً معزولاً عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولا عن موقع الجيش في حماية الحدود. لذلك، فإن حديث الرئيس عن التفاوض بدا وكأنه محاولة لرسم توازن جديد بين مقتضيات الواقع الإقليمي وبين ثوابت الهوية الوطنية. هو خطاب يعترف بأنّ المنطقة تتغير، وأنّ لبنان لا يمكنه البقاء خارج حركة التحولات، لكن من دون التفريط بما يعتبره جوهره السيادي.
تجلّت الرمزية أيضاً في الرسالة الموجهة إلى الداخل. فالرئيس، في لحظة انقسام داخلي حاد، أعاد التأكيد على الجيش كضامن للاستقرار وعلى موقعه كمرجعية وطنية جامعة. وقد شكّل هذا الطرح استعادة للثقة بدور المؤسسة العسكرية، خصوصاً في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي ترهق البلاد منذ سنوات. وأراد الرئيس من خلال ذلك أن يعطي إشارة بأنّ أي مسار تفاوضي أو سياسي لا يمكن أن ينجح من دون مرافقة أمنية صلبة، وأن الجيش هو العنوان الطبيعي لهذه الضمانة.
في البعد الإقليمي للخطاب، بدا الرئيس مدركاً لخصوصية اللحظة. فالمنطقة تقف على مفترق تحولات كبرى، ومسارات ترسيم تحالفات جديدة ترسم خرائط تأثير جديدة. وبالتالي، فقد جاء كلامه ليؤكد أنّ لبنان يجب أن يكون حاضراً في صناعة مستقبله، لا متلقياً لنتائج الاتفاقات التي تعقد من حوله. واستعداد الدولة للتفاوض ليس خروجاً عن الإجماع العربي، بل محاولة لحماية مصالحها ضمن حدود الممكن.
نخلص لنقول إن خطاب العماد جوزاف عون في عيد الاستقلال شكّل نقطة مفصلية في إعادة صياغة الموقف الرسمي من الملف الحدودي والعلاقة مع إسرائيل. هو خطاب جاء محمّلاً بالرمزية، لكنه أيضاً مفعم بالرسائل العملية. ومن خلاله، بدا الرئيس كمن يرسم معادلة جديدة: لبنان متمسك بانسحاب كامل غير منقوص، لكنه منفتح على التفاوض كأداة لحماية السيادة وتثبيت الاستقرار. معادلة قد تشكّل، في حال تلقفتها القوى السياسية، مدخلاً إلى مرحلة أكثر وضوحاً في علاقة الدولة اللبنانية بحدودها وبمستقبل الجنوب.

