«صنّارة»… مبادرة تمنح نساء لبنانيات خيطاً يشدّهن للحياة
في خريف 2024، حين كان صوت القصف الإسرائيلي يهبط على لبنان، فتهتزّ البيوت وتهيم العائلات النازحة بحثاً عما يُهدّئ قسوة الليالي، وُلدت فكرة «صنّارة». كأنّ بذرةً صغيرةً أصرَّت أن تنبت في أرض تحترق، لتُعلن أنّ الخراب ليس الخاتمة. فاليد التي تحمي رأس طفل مذعور تستطيع أيضاً أن تُمسك بخيط وتحوك معنى جديداً.
آن ماري ماضي، مؤسِّسة جمعية «صنّارة»، محامية لبنانية تُمارس مهنتها منذ 25 عاماً، وجدت نفسها في قلب المشهد. كانت تقضي الصيف في الجبل، وتزور بصفتها عضواً في نادي «روتاري بيروت سيدرز» مراكز الإيواء لتفقُّد حاجات الناس.

بين صفوف المدارس الرسمية التي تحوَّلت إلى ملاجئ، رأت وجوهاً أنهكها الخوف، وملامح نساء طمرها الإحباط. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «كان المشهد ثقيلاً. أمَّنت الجمعيات الطعام والفُّرش، لكنّ شيئاً أبعد من المساعدة المباشرة ظلَّ ناقصاً. رأيتُ نساء معزولات داخل الخوف ونظرات فقدت الأمل».
الصور لم تُغادرها. فكّرت في ما يمكن أن تُقدّمه خارج إطار اللوازم اليومية. شيءٌ يُخفّف التوتّر ويُعيد الحركة إلى الأصابع والروح. ببساطة، خطرت الفكرة: لماذا لا تتعلَّم النساء شغل الصوف؟ تلك الفكرة الصغيرة لمعت في رأسها مثل شرارة حياة. اشترت أكياس خيوط بتمويل من «الروتاري»، نسَّقت مع إدارات الملاجئ، وقسمت النساء إلى مجموعات. بدأت الورشة الأولى بشغف راح ينمو. بعضهنّ خِطْنَ ملابس للأطفال بخبرة متواضعة، فاشترتها منهنّ مع أعضاء من النادي، لتدور من هنا عجلة اقتصادية ولو بحجم قبضة يد. ثم واصلت آن ماري ماضي الطريق وحدها، مُمسِكة بالخيط لنَسْج المشروع بحزم وشغف.

لكن ما حدث، كما تقول، تجاوز التوقُّع: «بعد وقف إطلاق النار وعودة النازحات إلى المنازل، بقيت صورهنّ في ذهني. الفرح الذي رأيته في عيونهنّ كان فريداً. شعرتُ أنَّ شيئاً فيهنّ تبدَّل. أصبحن أقلّ غضباً وأقلّ توتراً. بعضهنّ توقَّفن عن التدخين ورُحنَ ينتظرن موعد العمل كما ينتظر المرء نافذة هواء في غرفة مكتظّة». هنا فهمتْ أنّ المشروع هو بداية طريق. ليس لحظة عابرة ولا مبادرة ظرفية.
وربما، على نحو غير مُعلَن، كان ذلك أيضاً مشروعاً تعويضياً في حياة امرأة أغرقتها سنوات القانون والمؤسّسات والمُرافعات. فداخل المحامية التي تزن الكلمات بميزان العدالة، بقيت نار الفنّ تشتعل. آن ماري ماضي مُولعة بالثقافة وباللمسة الفنّية التي تُعيد للإنسان إحساسه بالوجود؛ تقول: «أحبُّ مهنتي، لكنّ الشغف شيءٌ آخر. الفنّ يُعيد لي ما أخذه منّي الزمن المهني الطويل».
هكذا حملت المبادرة اسم «صنّارة»، أي إبرة الصوف وصنّارة الصيد. اسمٌ يُشبه الفكرة: لا سمكة تُلتَهم وتنتهي، إنما أداة لتعلُّم الصيد وامتلاك الغد. تعاونت مع جمعية «مار منصور دي بول» في برج حمود، التي موَّلت تدريب 15 امرأة، ثم توسَّعت الرؤية. هذا المشروع أصبح جمعية تستمرّ وتتحوّل إلى شبكة دعم نفسي ومالي واجتماعي.

يُرافق مُدرّبٌ النساء في رحلة التعلُّم والإنتاج، فتقول: «السيدات يقبضن ثمن القطعة فوراً، وهذا حقّهن سواء استطعتُ بيعها أم لا. الفكرة أن يشعرن بالجدوى والقدرة، ويتحوَّل الجهد إلى قيمة». كثيرات من المُشاركات عُدن اليوم إلى بيوتهنّ ليعملن من هناك، تاركات المكان لأخريات. الدورة تتوسَّع والخيط يطول.
مع الوقت، صار المشروع مرّة أخرى مساحة علاج. التركيز على الغَرْز، اختيار الألوان، صَبْر اليد… كلُّ ذلك فعل شفاء. تشرح: «العمل اليدوي يفصل الإنسان عن الضوضاء. يُشغّل الخيال ويمنح سلاماً. حين بدأتُ، كان الهدف علاجاً نفسياً قبل أي شيء». في بلد أنهكته الأزمات، قد يكفي أن تستيقظ امرأة صباحاً، ترتدي ثياباً جميلة، وتخرج لتعمل، حتى تستعيد شيئاً من صوتها الداخلي.

لم يعد الأمر مادياً فحسب. صداقات تولد. أحاديث مُلهمة عن الإبداع بدل قصص الحرب والقلق. نساء يشعرن بأنفسهن من جديد، خصوصاً اللواتي لم يُكملن تعليمهن الجامعي. المشروع يمنح حرفةً وأيضاً مساراً جديداً للحياة، ومساواة في القدرة على الإنتاج وقيمة في الفعل نفسه.
ولا يتوقّف طُموح «صنّارة» عند حدود المَشغل. فآن ماري ماضي تعمل على فتح نافذة أخرى على الثقافة. زيارة للمتحف الوطني قيد التحضير، فتقول: «أريد أن أضعهنّ على تماس مع معرفة جديدة. أن ينقلن ذلك إلى أبنائهنّ. هذه خطوات لكَسْر دائرة قد تكون مُغلقة». وفي الأفق خطُّ ملابس صغير مُواكب للموضة، وموسم أعياد يَعِد بمعرض لبيع ما يُصنِّعنه.

الدعم لا يزال ضرورياً اليوم، من تبرّعات ومبادرات ومساحات مشاركة، لكن الهدف الواضح هو بلوغ استقلال اقتصادي خلال المرحلة المقبلة وتمويل ذاتي عبر الإنتاج. الحلم كبير والخطّة طَموحة: «في نهاية عام 2030، أطمح أن تكون معنا نحو 300 سيدة».
وما بين خيط وآخر، تغيَّرت آن ماري نفسها. تعترف بابتسامة: «جرّبتُ أن أُغيّر حياتهنّ، لكنّ حياتي أنا تغيَّرت. لا السفر ولا السهر ولا التسوُّق أعطاني هذه السعادة. ما أحبّه هو أن أرى إنساناً يُطوّر نفسه».
تبدو «صنّارة» فعلاً يواجه اليأس بالألوان، والفراغ بالعمل، والصدمة بإعادة حياكة الروح. مشروع صغير في حجمه، هائل في أثره، يقف ضدّ فكرة الاستسلام. يبدأ بخيط، ثم يصبح شبكة. يبدأ بغَرْزة، ثم يتحوَّل إلى حكاية. ومثل جميع الأشياء التي تُولد تحت النار ثم تنجو، يحمل هذا المشروع عناداً على شكل ضوء لا يُطفأ أبداً.

