ما إن انفجرت قضية اقتباس الكاتب الجزائري الفرنسي كمال داود، السيرة الذاتية للسيدة سعادة عربان، ضحية الجماعات المسلحة في الجزائر، التي كانت تتلقى علاجاً نفسياً عند زوجة الكاتب الطبيبة النفسانية، حتى انقسم الرأي العام الأدبي في الجزائر بين متفهّم ومستنكر .
اختار داود أن يروي قصّة سعادة عربان في أحدث رواياته “حوريات” الفائزة بجائزة “غونكور” الفرنسية في دورتها الأخيرة، والكشف عن سيرة ذاتية لامرأة لم تكن على دراية بما تسرّب عنها من معلومات، يفترض أنها محفوظة بشكل سري في ملفها الطبي. في حين تحرّك القضاء الجزائري، وأصدر مذكرتي توقيف دوليتين بحق داود في 8 مايو 2025.
“الشرق” أجرت حواراً حصرياً مع الناجية من المجزرة سعادة عربان، بعد تصاعد السجال، واستدعاء القضاء الفرنسي الكاتب كمال داود.
خاطب شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا أوّل شهيد جزائري أعدم الاحتلال بالمقصلة عام 1956 بكونه “الذبيح الصاعد”، فهل نستطيع أن نقول عنك إنك “الذبيحة الناجية”؟
هذا صحيح تماماً. غير أن الفرق بيني وبين الشهيد المذكور، أنه كان يعرف لماذا جرى إعدامه، فهو تمرّد على الاحتلال الفرنسي طلباً لاستقلال وطنه، بينما أنا لا أعرف لماذا ذبحوني، وكيف نجوت فعلاً يوم 28 يوليو عام 2000.
كنت طفلة تستعدّ لأن تكبر قريباً مع أسرتها ومدرستها، كان عمري 6 سنوات، فاستيقظت ذات صبيحة على فجيعة أن الأسرة ذُبحت، والطفلة كذلك، ولم تستطع حينها أن تعبّر عن فجيعتها تلك، لأن حبالها الصوتية قُطعت، فلم تبق لها إلا ملامح وجهها، وحركات يديها لتعبّر عن مشاعرها.
ما الذي بقي من تلك الطفلة، وهي صارت زوجة وأماً لطفل؟
بقي إصرارها على الحياة وتشبّثها بالأمل، وإيمانها بقدر الله وبإرادتها؛ فإرادتي وشجاعتي ظلتا هما هويتي، منذ فتحت عيني على دمائي ودماء أهلي.
هل تشبّثك بالحياة والأمل دفعك إلى أن تقصدي طبيبة نفسية؟
بقايا الخوف في داخلي كان يزعجني، كذلك رواسب الحزن التي خلّفتها تلك الحادثة المروّعة، فقرّرت أن ألجأ إلى طبيبة نفسية، لتساعدني على التطهّر منها، فأواصل حياتي بلا كوابيس، ليس لأجلي فقط، بل أيضاً لأجل زوجي الذي ترك كل الاعتبارات خلفه، وقرّر أن يرتبط بي، ولأجل طفلي الذي كان ثمرة لذلك الارتباط، فلا تكون أسرتي ضحية لوضعي النفسي، بصفتي ضحية سلوك وحشي أخذ صوتي، وأورثني جهازاً للتنفّس عن طريق الحنجرة.
وهل وجدت الراحة عند الطبيبة؟
كنت حريصة على أن أجده، فسردت لطبيبتي النفسانية كل تفاصيل حياتي ومأساتي، بعيداً عن أي تحفّظ. قلت لنفسي يجب أن أساعدها كي تساعدتي، بأن أجعلها تعرف عني وعن مشاعري كل شيئ.
هل كنت تعرفين أنها زوجة كاتب روائي؟
ما احتكمت إليه هو ثقتي بها؛ تربّيت على أن الطبيب النفسي هو شخص موثوق ونقي وكتوم، من تلقاء نبله، قبل أن يكون محلّفاً.
هل شعرت بالخيبة، حين علمت أن سيرتك انتقلت إلى أوراق زوجها الكاتب؟
جرّبت الخيبة من قبل ولم تصدمني كثيراً، لأنها كانت من قِبل أشخاص يمكن أن يخونوا الثقة، إذ يحدث مثلاً أن تشتري لحماً من بائع اللحوم على أنه لخروف بينما هو لحيوان آخر، لكن أن يغشّك الطبيب النفسي المصنّف في ذهنك ووجدانك، بأنه كائن مثالي، فالخيبة تصبح مضاعفة.
لعل الكاتب انطلق في استثمار سيرتك في روايته من أجل تخليدها والاحتفاء بشجاعتك، فلماذا لم تحسني الظن به؟
لست حارسة نوايا؛ لكني لست ساذجة أيضاً، فما الذي منعه من أخذ الإذن مني، وخصوصاً أن التواصل بيننا كان متاحاً. ثم من قال له إني كنت مستعدة لأن أبيح تجربتي للآخرين، أو إني لم أكن أفكر في توثيقها بنفسي، أو عن طريق كاتب آخر أثق فيه وأؤمن بقدراته؟ هل تعلم أن أبي بالكفالة مؤرّخ وكان قادراً على أن يفعل ذلك باقتدار لو أني طلبت منه ذلك.
أنت قارئة جيدة للأدب المكتوب بالفرنسية، وفيه تجارب روائية سبق لها أن استلهمت من حياة الآخرين، فلماذا ترفضين أنت ذلك؟
لا يعني الاستلهام أن يأخذ الروائي كل صفات بطلته من إنسانة تعيش في الواقع، حتى إن محيطها يستطيع أن يتعرّف عليها عند قراءة الكتاب. هذا سطو وليس استلهاماً؛ ثم إن هناك خيانة للأمانة من قِبل زوجته الطبيبة النفسية، فما كان لها أن تسرّب له حكاية مريضتها، ولو من باب الحديث الحميمي بين زوجين، وهو كان مطالباً بأن ينبّهها إلى ذلك، وألا يستغل الحكاية أصلاً، فهو لم يأخذ الحكاية من جريدة أو من حساب فيسبوكي، بل من ملف مصنّف مهنياً وأخلاقياً في خانة “سرّي للغاية”.
هل تشبهك إلى هذه الدرجة بطلة رواية كمال داود؟
بل إن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: هل إلى هذه الدرجة تجرّدت زوجته من أخلاقيات المهنة، وتجرّد هو من أخلاق الكتابة؟
أنا لا أتجنّى عليه، كان الأمر سيبدو كذلك لو اتهمته بأمر حدث سراً بيننا، أما قولي إنه استغل حياتي التي يعرفها بعض الناس في روايته التي قرأها الكثيرون، فلا يحتاج الأمر إلا إلى إجراء مقارنة بسيطة كي تتجلى الحقيقة؛ وهذا ما أنتظره من القضاء الذي لا شك في أنه سيستعين بخبراء في هذا الباب.
يقول البعض إنك تريدين الاستفادة من شهرة الروائي والرواية، هل يحق لك ذلك؟
لو كانت الشهرة هدفي، لتوليت بنفسي كتابة فصول مأساتي الإنسانية، إن لم يكن في شكل رواية، ففي شكل مذكّرات، فأنا أُحسن اللغة الفرنسية، وأعلم أن عالم النشر في فرنسا يرحّب بمثل هذه الكتابات، وأن القارئ والإعلام الغربيين شغوفان بها.
لماذا لم تفعلي ذلك إذن؟
كانت لدي أجندتي الخاصة. فليس سهلاً على “ذبيحة” أن تكتب مأساتها بيسر، لذلك هي مطالبة بأن تتحيّن الظرف المناسب للبوح والمحرّض عليه؛ كنت أنتظر أن أتجاوز محنتي نفسياً، وسطو كمال داود على سيرتي أربك تلك الأجندة.
كان إقبالي على كتابة تجربتي بنفسي، سيحرّرني من كوابيسها، ويطهّرني من مخلفاتها، أكثر من لجوئي إلى الطبيبة النفسانية، وهو أخذ مني ذلك الحق. إنه ليس سارق سيرة فقط، بل هو أيضاً سارق حق شخصي لإنسان منكوب صحياً ومأزوم نفسياً. فهل هذا السلوك ينسجم مع شرف الكتابة ونبلها؟