شكّلت مشاركة زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، في العرض العسكري لاحتفالات الصين بـ”يوم النصر” لإحياء الذكرى الـ80 لانتهاء الحرب العالمية الثانية بميدان تيانمين بالعاصمة بكين، الأربعاء، الضربة التي أصابت أكثر من عصفور بحجر واحد.
واكتسب ظهور كيم في العرض دلالة على وقوفه على قدم المساواة مع زعيمي القوتين العظميين، الرئيس الصيني شي جين بينج، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، فيما بدا أشبه بإعلان غير مباشر عن دخول بلاده لاعباً رئيسياً في لعبة خلط الأوراق، وإعادة تشكيل موازين القوى، وتعدد الأقطاب على الساحة الدولية.
ويمثل “تعدد الأقطاب” هدفاً جوهرياً تسعى إليه كل من بكين وموسكو، في مواجهة “أحادية القطب” التي تُتهم الولايات المتحدة بمحاولة ترسيخها.
زيارة كيم إلى الصين
تشترك كوريا الشمالية في معظم حدودها الشمالية مع الصين، ومع ذلك لم يزر كيم، جارته العظمى، منذ 6 سنوات، قبل أن يتوجه هذا الأسبوع إلى بكين لحضور عرض “يوم النصر”، الذي تحتفل فيه الصين بانتصارها على اليابان و”الفاشية” خلال الحرب العالمية الثانية، والفعاليات ذات الصلة.
واستغلت بكين احتفالاتها لدعوة قادة من جيرانها وحلفائها، بعضهم شارك في قمة منظمة شنغهاي للتعاون، التي جرت في مدينة تيانجين، يومي 31 أغسطس، والأول من سبتمبر، وشارك فيها دول وسط وجنوب آسيا، وبعضهم على علاقة سوية مع الغرب.
هاتان المناسبتان، منتحتا الرئيس الصيني شي جين بينج الفرصة للظهور بمظهر زعيم الكتلة المعادية للغرب، كما أتاح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة إثبات أنه ليس معزولاً دبلوماسياً.
أول تجربة دبلوماسية متعددة الأطراف
بالنسبة إلى كيم، جعل وجود القادة الآخرين زيارته إلى بكين أول تجربة له على الإطلاق، في مجال الدبلوماسية متعددة الأطراف.
وكان الزعيم الكوري الشمالي، سافر إلى بكين بقطار مدرّع، في رحلة استغرقت 20 ساعة، وكان برفقته كبار المسؤولين وابنته كيم جو-آي، والتي يُعتقد أن عمرها حوالي 12 عاماً، لكنها كانت حاضرة بشكل متكرر مع كيم جونج أون في العديد من المناسبات الأخرى، بما فيها زيارات المصانع، ومناورات إطلاق الصواريخ، مما أثار تكهنات بأن كيم يُعدّها لخلافته، وقد زاد ظهورها في بكين من هذه التكهنات.
وقال لي جونج-هو، وهو أستاذ بمعهد الدراسات الكورية بجامعة كوريا، لـ”الشرق”:” بالنسبة إلى بيونج يانج، فإن اعتراف بكين وموسكو بكيم جو-آي (ابنة الزعيم الكوري الشمالي)، ولو رمزياً، يُسهم في استقرار رواية الخلافة الداخلية.
وأضاف: “في الثقافة السياسية لكوريا الشمالية، يُضفي الاعتراف الخارجي من القوى الكبرى شرعية في الداخل”.
ولم تكن لدى كيم جونج أون خبرة دبلوماسية تُذكر عندما تولى السلطة، وربما كان ذلك عيباً عندما عقد أولى قممه مع قادة العالم.
ويُعتقد أن كيم، من خلال اصطحاب جو-آي في هذه الرحلة، يحاول تدريبها على الدبلوماسية الدولية منذ صغرها.
في المقابل، ترى راشيل مينيونج لي، الزميلة البارزة في مجلة “38 نورث” المعنية بتحليل شؤون كوريا الشمالية، أنه قد يكون من السابق لأوانه استخلاص مثل هذه الاستنتاجات بشأن تخطيط الخلافة؛ نظراً لصغر سن كل من كيم جو-آي، وكيم جونج أون.
وأضافت “لي” في حديثها لـ”الشرق”: “قد يكون الأمر ببساطة رغبة كيم جونج أون في أن توسّع ابنته آفاقها، وأن يُعرّضها لمواقف وأمور مختلفة منذ صغرها”، مشيرة إلى أن جو-آي زارت مؤخراً السفارة الروسية في بيونج يانج برفقة والدها.
وفي العرض العسكري الذي أقيم بمناسبة الذكرى ال،80 ليوم النصر في الصين، وقف كيم جونج أون إلى جانب الرئيس الصيني، والرئيس الروسي، وكانت هذه هي المرة الأولى منذ 66 عاماً التي يجتمع فيها هؤلاء (قادة الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية) في المكان والمناسبة نفسها.
وفي عام 1959، وقف مؤسس كوريا الشمالية كيم إيل سونج آنذاك إلى جانب الزعيم الصيني ماو تسي تونج، والزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف، خلال عرض عسكري مماثل نظمته الصين.
وقبل 10 سنوات، في الذكرى الـ70 لـ”يوم النصر”، أرسلت كوريا الشمالية مسؤولاً رفيعاً في الحزب الحاكم (حزب العمال الكوري الشمالي) فقط، لذا فإن وجود زعيم كوريا الشمالية هذه المرة، أمراً استثنائياً في حد ذاته، إذ لم يسبق أن جلس أي كوري شمالي آخر بجانب زعيم صيني في مثل هذا الحدث متعدد الأطراف.
وقالت راشيل مينيونج لي: “من حيث الأهمية بالنسبة لكوريا الشمالية، فهو (كيم جونج أون) يحتك بزعماء قوتين عظميين في العالم، وأيضاً قادة كتلة مناهضة للولايات المتحدة، والغرب”.
كوريا الشمالية.. لاعب رئيسي
وترى “لي” أن هذا اللقاء يُظهر أن بيونج يانج “ليست مجرد لاعب في هذه الكتلة، بل إنها لاعب رئيسي إلى جانب الصين وروسيا”، موضحة أن ذلك يُظهر أيضاً قبول موسكو وبكين لكوريا الشمالية كدولة مسلحة نووياً.
فيما أوضح الباحث الزائر في مركز آسيا بجامعة سيول الوطنية، ديلان موتين لـ”الشرق” أن وضعية جلوس كيم كانت ذات أهمية بالغة، نظراً لوجود العديد من القادة المهمين الآخرين في الحدث، لكن شي اختار أن يجلس كيم بجانبه.
ومضى يقول: “شي كان يرسل رسالة إلى العالم الخارجي مفادها بأن الصين ستكون في قلب كتلة معادية لأميركا”.
وكانت العلاقات بين كوريا الشمالية والصين وثيقة في الماضي، لكنها تدهورت، وهي أحد العوامل التي دفعت كيم إلى الموافقة على عقد قمم مع الولايات المتحدة خلال ولاية دونالد ترمب الرئاسية الأولى.
ومنذ انهيار تلك المحادثات، أصبحت بيونج يانج أقرب إلى موسكو، حتى أنها زودتها بالقوات والذخيرة لمعركتها ضد أوكرانيا، وأثناء وجوده في بكين، عقد كيم اجتماعاً ثنائياً مع بوتين حيث ورد أنهما ناقشا خططاً للتعاون طويل الأمد.
كما عقد كيم قمة مع شي جين بينج، الخميس، حيث قال زعيم كوريا الشمالية: “مهما تغير الوضع الدولي، فإن المشاعر الودية بين كوريا الشمالية والصين لن تتغير”، وأضاف أن بلاده ستدعم موقف الصين “في القضايا الجوهرية مثل تايوان وإقليمي التبت وشينجيانج”.
فيما اعتبر شي خلال القمة إن زيارة كيم “فرصة مهمة لمواصلة تطوير علاقات التعاون الودية بين الحزبين والبلدين”.
وقال لي جونج-هو: “مع انغماس واشنطن في نزاعات التعريفات الجمركية وصعوبة إظهار قيادة متماسكة، ومع استمرار تنامي الثقل الاقتصادي لبكين، من المرجح أن يرى كيم بداية عالم متعدد الأقطاب”.
وأضاف: “في هذه البيئة، فإن التحالف مع الصين وروسيا في إطار معادٍ للولايات المتحدة بشكل صريح يخدم المصالح الأمنية طويلة الأجل لكوريا الشمالية”.
العلاقات بين بكين وبيونج يانج
وفي ما يتعلق بتحسين العلاقات بين بيونج يانج وبكين، قال “موتين” إنه لا يتوقع أي تطور كبير في المجال الأمني، ولكنه نوه إلى أنه قد يكون هناك بعض النقاش حول شراكة اقتصادية جديدة.
وقالت راشيل مينيونج لي إن قبول كوريا الشمالية لدعوة الصين يظهر وجود إرادة من جانب بيونج يانج لتحسين العلاقات، ولكنها أوضحت: “لكي نتمكن من قياس ما إذا كانت هذه العلاقة قد تغيرت حقاً.. يتعين على المراقبين الانتباه إلى كيفية تعامل وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية مع الصين خلال الأسابيع، والأشهر المقبلة”.
والتقى كيم أيضاً برئيس الجمعية الوطنية الكورية الجنوبية، وو وون شيك، وهو ما يراه الباحث ديلان موتين أنه يتيح لزعيم كوريا الشمالية الادعاء بأن الكوريين الجنوبيين يأتون إليه راغبين في التحدث، موضحاً أن ذلك سيعزز مكانته على الساحة الداخلية، لافتاً إلى أن ذلك قد يشكّل ذلك خطوة صغيرة نحو فتح الباب أمام بدء حوار بين سول، وبيونج يانج.
ولكنه لفت إلى أنه في حال حدوث أي حوار مع سول أو واشنطن في المستقبل القريب، فإن قرار شي جين بينج باستضافة كيم في مكان بارز إلى جانب بوتين يعني أن كوريا الشمالية ستدخل هذه المحادثات من موقع أقوى بكثير.
واختتم لي جونج-هو حديثه قائلاً: “لقد مُنحت كوريا الشمالية رؤية دبلوماسية متجددة، وبالتالي، إحساساً أقوى بالشرعية على الساحة الدولية”.