حسين زلغوط, خاص – “رأي سياسي”:

في توقيتٍ بالغ الحساسية سياسيًا وأمنيًا، اتخذت قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) قرارًا بخفض عديد قواتها العاملة في الجنوب بنسبةٍ ملحوظة. هذه الخطوة، التي تأتي في ظل مسارٍ دوليّ متدرّج لإعادة النظر في مهام القوة، أثارت تساؤلاتٍ معمّقة حول أسبابها الفعلية وتداعياتها المحتملة على استقرار منطقةٍ تُعدّ الأكثر هشاشةً في لبنان.
من الناحية الظاهرية، يرتبط خفضُ العديد بعوامل مالية وإدارية ضمن سياسةٍ أوسع لتقليص نفقات عمليات حفظ السلام. لكن قراءةً أعمق لمشهد الجنوب تكشف أن القرار يتجاوز الحسابات اللوجستية إلى حساباتٍ سياسية بحتة تتداخل فيها أبعاد لبنانية وإقليمية ودولية. فالمجتمع الدولي، وعلى رأسه القوى المموِّلة، يبدو أكثر ميلًا إلى دفع الأطراف المعنية نحو إعادة تموضعٍ شامل لدور اليونيفيل، بما يعيد المسؤولية الأمنية تدريجيًا إلى الدولة اللبنانية. هذا التحول يعكس قناعةً دولية بأن وجود القوة الدولية في الجنوب لم يعد قابلًا للاستمرار بصيغته التقليدية، في ظل تعقّد الأوضاع الميدانية وتراجع جدوى الدوريات والمراقبة في تحقيق الأهداف المرجوّة.
أما داخليًا، فيأتي خفضُ العدد في لحظةٍ يعاني فيها الجيش اللبناني من ضغوطٍ غير مسبوقة، سواء لجهة الموارد أو الجهوزية أو حرية التموضع في بعض المواقع في الجنوب. ورغم الجهود المكثفة التي بذلها لتعزيز انتشاره جنوبًا، فإن الفجوة بين المطلوب والمتاح لا تزال كبيرة. من هنا، يطرح القرار علاماتِ استفهامٍ حول قدرة المؤسسة العسكرية على ملء أي فراغٍ محتمل، خصوصًا أن أي تراجعٍ في انتشار “اليونيفيل” قد ينعكس مباشرة على مستوى المراقبة وضبط الحدود واحتواء الاعتداءات الإسرائيلية اليومية التي غالبًا ما تنشأ دون مقدمات.
في المشهد الإقليمي، يبدو التوقيت وكأنه ترجمةٌ غير مباشرة لضغوطٍ على الأطراف المحلية والإقليمية لإعادة النظر في قواعد الاشتباك. فالجنوب اللبناني لا يتحرك بمعزل عن معادلاتٍ أكبر تشمل العلاقات اللبنانية – الإسرائيلية، والمفاوضات الدولية المرتبطة بملفاتٍ حساسة. ضمن هذا الإطار، قد يُقرأ خفضُ القوات كرسالةٍ مفادها أن المجتمع الدولي لن يبقى ضامنًا دائمًا للاستقرار، وأن على الأطراف المعنية تحمّل مسؤولياتها في منع أي انفجار محتمل.
مع ذلك، يبقى للقرار تداعياته الميدانية التي قد تكون أكثر تعقيدًا مما يبدو. فاليونيفيل، رغم الانتقادات، تلعب دورًا هامًا في توفير عنصر طمأنينةٍ معنوي لأهالي الجنوب، وتحديدًا أبناء القرى الحدودية، وأي خفضٍ في عديدها قد يغيّر دينامية المشهد الميداني، ويمنح إسرائيل فرصةً للتوسع أو إعادة التموضع.
لكن ورغم كل ما تقدّم، فإن مشهد الجنوب ليس سوداويًا بالكامل. فالخفض الحالي لا يعني بالضرورة انسحابًا كاملًا أو فوريًا، بل قد يشكّل مرحلةً أولى في مسار إعادة هيكلة الصلاحيات والمهام. وإذا رافقته خططٌ واضحة لتعزيز قدرات الجيش اللبناني، وتفاهماتٌ محلية على ضبط الإيقاع الأمني، فقد يتحوّل إلى فرصة لإعادة بناء الثقة بين المؤسسات الرسمية وأهالي المنطقة.
غير أن الخطورة تكمن في أن يتم تنفيذ الخفض دون استراتيجيةٍ انتقالية واضحة، أو دون معالجة دقيقة للثغرات التي قد تنشأ على الأرض. فالمعادلة هناك حساسة إلى حدّ أن أي سوء تقدير يفتح الباب على تغييراتٍ غير محسوبة قد تتطوّر سريعًا إلى مواجهاتٍ يصعب احتواؤها.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل الجنوب مؤهّل اليوم لاستيعاب هذا الفراغ؟ هناك عدة علامات تحذّر من وجود مخاطر؛ فالجيش اللبناني، رغم الجهود التي يبذلها في الانتشار جنوبًا، لا يزال يفتقر إلى الكثير من الإمكانات مقارنة بحجم المهمة، خاصةً في ظل استمرار وجود نقاط محتلة من قبل إسرائيل. ومن الناحية النفسية لدى الأهالي، فإن خروج قوات “اليونيفيل” قد يسبّب شعورًا بعدم الأمان، خصوصًا في بلداتٍ كانت تعتمد على التواجد المتعدد الجنسيات كضامنٍ لاستقرارهم.

