حسين زلغوط,

خاص – “رأي سياسي”:
في مشهد غير مألوف، تقف العدالة الفرنسية على مسافة واحدة من الجميع، لا تُفرّق بين رئيس سابق ومواطن عادي. الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي تربع على عرش الإليزيه بين عامي 2007 و2012، وجد نفسه خلف القضبان بعد إدانته بتوظيف أموال ليبية في حملته الانتخابية واستغلال نفوذ. حدثٌ كهذا لا يمر مرور الكرام في الدول التي اعتادت أن ترى زعماءها فوق المحاسبة، محصّنين بالحصانة والولاء والطائفية والمصالح المتشابكة.
ليس المهم هنا تفاصيل الحكم أو مدته (5 سنوات)، بل الرسالة الرمزية التي تحملها هذه الواقعة: لا أحد فوق القانون. ففرنسا، التي كثيراً ما تُتَّهم بازدواجية المعايير في سياساتها الخارجية، نجحت في الداخل بإعطاء مواطنيها جرعة قوية من الثقة بمؤسساتها القضائية. أما في المقلب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، حيث العالم العربي غارق في أزماته، يبقى السؤال معلّقًا: متى يُحاكم الرئيس؟ متى يدخل المسؤولون الكبار قفص الاتهام كما المواطن العادي؟ ومتى تنكسر قاعدة “من يسرق ملايين يُكرَّم، ومن يسرق رغيفًا يُدان”؟
في لبنان، يكاد يُختزل تعريف “العدالة” بمحاسبة صغار الموظفين، والموظفين غير المحميين سياسيًا، أما الكبار، فأصحاب مقامات محفوظة، محمية بجدران الطائفة والمذهب والتحالفات.
فأي مقارنة بين ما حدث في فرنسا وما يحدث في لبنان، تبدو ظالمة… لا لفرنسا، بل لهذا البلد الذي يعاني من عجز مزمن في بناء الدولة، وتأسيس قضاء مستقل، وتحقيق محاسبة فعلية.
قد يعتقد البعض أن محاكمة رئيس سابق هو فعل انتقام سياسي، لكن الواقع مختلف حين تكون المؤسسات قوية ومستقلة. العدالة ليست فعلًا انتقاميًا، بل أداة لإعادة التوازن في المجتمعات. لا تنهض الديمقراطيات من دون قضاء نزيه، ولا تُبنى الثقة بين المواطن والدولة من دون شعور حقيقي بأن “الكل تحت القانون”، بدءًا من أعلى الهرم.
ما قامت به فرنسا لا يعني أنها أصبحت مثالية، ولا يعني أن القضاء هناك خالٍ من العيوب أو التأثيرات، لكنه يعني شيئًا واحدًا مهمًا: هناك إمكانية للمحاسبة، وهناك شجاعة سياسية وقانونية لإسقاط الحصانة متى لزم الأمر.
في العالم العربي، نحتاج أكثر من ساركوزي ليدخل السجن، نحتاج إلى إرادة سياسية تؤمن بالمساءلة لا بالمسايرة، نحتاج إلى قضاء حرّ لا يُدار بالهاتف ولا يُعزل بالتعليمات، نحتاج إلى شعوب لا تُصفّق للزعيم بل تُراقبه، لا تهتف باسمه بل تحاسبه.
أما في لبنان، فإنه يحتاج إلى ثورة قانونية تبدأ من إعادة بناء السلطة القضائية من الأساس، وتحريرها من سطوة السياسيين، ومنحها القدرة على استدعاء أيّ كان، رئيسًا أو نائبًا أو وزيرًا، من دون خوف أو مساومة.
مشهد دخول رئيس فرنسي إلى السجن يجب ألا يُقرأ على أنه استثناء أوروبي، بل كإشارة إلى أن العدالة ممكنة. هو ليس حلمًا، بل هدف يمكن الوصول إليه حين تتوافر الشروط: مؤسسات مستقلة، مجتمع واعٍ، وضغط شعبي لا يتراجع.
قد يطول الطريق، وقد تُواجه التجربة بالترهيب والتخوين، لكن كما دخل ساركوزي السجن، قد يأتي يوم يُحاكم فيه من ظنّ نفسه أكبر من الدولة.