قريباً من ملتقى النيلين «المقرن»، ووسط الخرطوم التي احترقت ذاكرتها، سُدت أبواب «متحف السودان القومي» في وجه الزوار، بعدما تحوّل أحد أقدم المعالم الثقافية في أفريقيا ساحة قتال ونهب، منذ الأيام الأولى للحرب بين الجيش و«قوات الدعم السريع» في أبريل (نيسان) 2023.
كان المتحف يحتضن آلاف السنين من التاريخ السوداني، لكنه اليوم مجرد أطلال، قاعاته خاوية، وساحاته مغطاة بالرماد والزجاج المحطم وبقايا حاويات محترقة. ورغم هذا الدمار، تعمل لجنة على حصر الأضرار بصمت، موثقةً ما تم نهبه وتحطيمه من كنوز تعود إلى ما قبل الميلاد.
تقول إحدى المسؤولات في اللجنة إن المتحف سيظل مغلقاً حتى اكتمال التقرير النهائي، الذي سيُعلن حجم الكارثة الثقافية التي نالت من واحدة من أقدم ذاكرات أفريقيا الحضارية.
صهر الآثار الذهبية
قالت الدكتورة إخلاص عبد اللطيف، رئيسة لجنة استعادة الآثار المنهوبة ومسؤولة المتاحف بهيئة الآثار، لـ«الشرق الأوسط»، إن قطعاً ذهبية نادرة كانت معروضة داخل المتحف اختفت، مرجحة استحالة استعادتها؛ لأن الذهب «غالباً ما يُصهر ويباع في السوق السوداء»؛ ما يصعّب تتبعه.
لكن الدكتورة إخلاص أبدت تفاؤلاً حذِراً بإمكانية استرداد قطع أثرية أخرى حجرية غالباً، تم تهريبها عبر الحدود. وقالت إن كثيراً منها «يحمل أرقاماً تعريفية ونقوشاً فريدة، تجعل بيعه مخاطرة بالنسبة لتجّار الآثار».
الملك تهارقا يقاوم السرقة
في قلب الخراب، نجا تمثال الملك تهارقا، أحد أعظم ملوك مملكة كوش، من السرقة والكسر؛ لأن التمثال كان محفوظاً داخل إطار حديدي، منذ قبل الحرب، فضلاً عن حجمه الكبير الذي لا يمكن تحريكه ونقله دون رافعة.
والملك تهارقا، الذي ورد اسمه في التوراة والإنجيل، حكم مصر والسودان بين عامي 690 و664 قبل الميلاد، ولا تزال مآثره قائمة حتى اليوم، شاهدة على عمق الحضارة السودانية.
نهب منظم
قبل اندلاع الحرب، كان المتحف يخضع لأعمال صيانة، وقد تم تخزين القطع الأثرية الصغيرة في صناديق مغلقة داخل المخازن؛ ما سهل سرقتها لاحقاً، تقول الدكتورة إخلاص عبد اللطيف: «تم رصد شاحنات حملت تلك الصناديق غرباً، قبل أن تعبر إلى حدود دول الجوار؛ ما يرجّح وقوعها في قبضة شبكات التهريب وتجارة الآثار غير الشرعية».
أما في إحدى صالات المتحف الواسعة، فقد شاهدت «الشرق الأوسط» بقايا صناديق وكراتين ممزقة، رجَّح المسؤولون أنها كانت تستخدم لتغليف القطع الأثرية قبيل تهريبها.
صمت في قلب الركام
في ممرّ ضيق ومظلم، جلس موظف شاحب تحت حرارة خانقة، يدقق في قطع حجرية وينقل ملاحظاته إلى ورقة بيضاء، قالت المسؤولة إن التعليمات واضحة: «لا تصوير، لا حديث، لا اقتراب؛ لأن عمل اللجنة يجري بسرية تامة، رغم انقطاع الكهرباء وغياب التهوية، وبإصرار أخلاقي على حماية ما تبقى من تراث البلاد».
وفي صالة أخرى، بدا نموذج لمقبرة من فترة ما بعد مروي (القرن الرابع الميلادي) في حالة تهشم تام، وتحيط بها الفخار المكسور وتتناثر حولها الصخور، وفي الأرض توجد «ورقة مهملة» تحدد للزوار تفاصيل طقوس الدفن في تلك الفترة: «شكل البناء، اتجاه دفن الجثمان، نوع الأثاث الجنائزي المرافق»، ولم تسلم من الغبار والإهمال حتى «الرموز المقدسة».
أبو دماك
كانت ستة تماثيل لأسود حجرية تزين مدخل المتحف، وترمز إلى الإله الكوشي «أبو دماك»، لكنها اليوم مهشمة ومكسورة الأطراف، وإلى جانبها حاويات الآثار وأدوات الحفر، والسيارات الميدانية، كلها تحولت هياكل متفحمة.
أما حديقة المتحف، التي كانت متنفساً في قلب العاصمة، فقد صارت ساحة موحشة مغطاة بالسخام وبقايا الزجاج، وملابس يرجّح أنها تعود لأسر «قوات الدعم السريع» التي حوّلت القسم الإداري مساكن مؤقتة طيلة شهور الحرب.
حراسة الذاكرة
تحرس شرطة السياحة والآثار ما تبقى من الذاكرة السودانية، وتمنع الدخول إلى المتحف بالكامل، حتى على الصحافيين، لكن «الشرق الأوسط» استطاعت الدخول، لتوثق بكاميرتها «الكارثة التي ألمّت بأقدم ذاكرة تاريخية ثقافية في البلاد».