رغم الترحيب باتفاق «التهدئة» الذي شهدته طرابلس، بين قوات حكومة «الوحدة» المؤقتة، و«جهاز الردع»، فإن الاتفاق خلّف حالة من الجدل بشأن «تعاظم الدور التركي في البلاد».
فأنقرة، التي دخلت على خط الأزمة ورعت التفاهم بعد فشل محاولات الوساطة الداخلية لأكثر من ثلاثة أشهر، لم تعد، في نظر كثير من الليبيين، مجرد وسيط يطفئ الحرائق، «بل باتت لاعباً رئيسياً يمسك بخيوط القرارين الأمني والسياسي، ويعيد رسم موازين القوى ويفرض التسويات وفق حساباته الخاصة».
وبينما ترى أطراف سياسية أن ما حدث هو «تأكيد جديد لتنامي النفوذ التركي في المنطقة الغربية والعاصمة خصوصاً»، يعتبر آخرون أن الأمر تجاوز حدود الوساطة ليغدو «وصاية مباشرة تصادر السيادة الوطنية»، مستندين إلى حجم التأثير المباشر الذي تمارسه أنقرة على فرقاء الأزمة في لحظات مفصلية.
واعتبر عضو «المجلس الأعلى للدولة»، سعد بن شرادة، أن الانتقادات الموجَّهة للوساطة التركية «لا تعكس رفضاً لأنقرة وحدها بقدر ما تعبّر عن رفض أوسع لأي تدخل خارجي في الشأن الليبي، إلى جانب الإحباط من فشل الوسطاء المحليين في التأثير على طرفي النزاع».
وقال بن شرادة لـ«الشرق الأوسط»، إن «أكثر من ثلاثة أشهر من محاولات شخصيات قبلية وجهوية لم تحقق اختراقاً، بينما تمكنت أنقرة خلال أيام معدودة من إقناع الطرفين وحلفائهما بقبول اتفاق التهدئة، ما عمّق الإحساس بالعجز عن حل أزماتنا بأنفسنا، وجعل الحاجة إلى تدخل طرف خارجي أمراً حتمياً».
وأشار إلى أن «انفتاح تركيا مؤخراً على القوى السياسية والعسكرية في شرق ليبيا، بعد سنوات من اقتصار تحالفاتها على طرابلس، عمّق القلق الليبي من تنامي نفوذها، خاصة مع توسع نشاطها الاقتصادي وحضور شركاتها في مختلف أنحاء البلاد»، لافتاً إلى «سياستها المرنة التي مكّنتها من التواصل مع خصوم متنافرين، وبناء شبكة تحالفات متناقضة تخدم مصالحها».
أما المحلل السياسي الليبي، محمد محفوظ، فوصف نجاح الوساطة التركية بأنه «تأكيد جديد لتصاعد نفوذها في البلاد»، وتوقّع في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن يسهم اتفاق التهدئة، إذا صمد، في «تسهيل تنفيذ خريطة الطريق الأممية التي تتضمن حسم الخلافات حول القوانين الانتخابية وتشكيل حكومة جديدة موحدة، ما قد يجدد المشهد السياسي الراهن».
أما الناشط السياسي، حسام القماطي، فأكد أن الانزعاج الليبي من الدور التركي «جاء لإدراك أن أنقرة لم تتدخل إلا بما يخدم مصالحها ويعزز نفوذها السياسي والعسكري، بما يمهد الطريق للحصول على المزيد من العقود والصفقات الاقتصادية».
وذكّر القماطي بمواقف سابقة لأنقرة وصفها بـ«البراغماتية الانتهازية»، بدءاً من «اصطفافها إلى جانب تيار الإسلام السياسي في مواجهة القوى المدنية في السنوات الأولى من العقد الماضي، ثم تدخلها العسكري الذي أوقف تقدم قوات الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر نحو طرابلس في أبريل (نيسان) 2019».
وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «بعد توقف الحرب في العاصمة بأعوام قليلة، وتحديداً مع بدء عملية الإعمار في الشرق الليبي، نسيت أنقرة عداوتها السابقة لقيادته السياسية والعسكرية، وانفتحت تدريجياً عليه لضمان نصيب شركاتها من مشاريع الإعمار، بالتوازي مع توقيع اتفاقيات اقتصادية مهمة في قطاع النفط مع حكومة الوحدة».
من جانبه، أبدى المحلل السياسي التركي، مهند حافظ أوغلو، تفهّمه لكافة الآراء والانتقادات الموجَّهة لبلاده ودورها، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف، الدور التركي رغم إيجابياته في منع مواجهة دامية يظل – بنظر كثيرين – شكلاً من أشكال التدخل الخارجي المرفوض».
وأشار إلى أن «وجود قواعد عسكرية تركية في الغرب ربما زاد من حساسية الموقف»، لكنه شدد على أن «ديناميكية الدبلوماسية التركية وقدرتها على التواصل مع أطراف متصارعة في الوقت ذاته، جعلتا منها لاعباً محورياً لا يمكن الاستغناء عنه، مقارنة بتأثير دول وأطراف عدة، بما في ذلك البعثة الأممية التي تمتلك تفويضاً دولياً».
ويختلف أوغلو مع طروحات عدة بشأن تدخل بلاده في التوصل إلى التهدئة بين «الردع» و«الوحدة»، موضحاً: «تركيا لم تتدخل لحماية (الردع) لوجود قواتها بقاعدة معيتيقة التي كان الأخير يسيطر عليها كما ردد البعض، أو لمنع الدبيبة من تفجير حرب واسعة لإجهاض أي مساعٍ لتنفيذ الخارطة الأممية».
وأضاف: «هي حاولت إنقاذ مستقبل الدبيبة السياسي، فإشعال حرب بالعاصمة قد يسقط خلالها العديد من الضحايا كفيل بإسقاط حكومته وإنهاء أي دور له في المشهد. وبالطبع، أنقرة تفضّل انتقالاً سلساً للسلطة عبر حزمة جهود وتوافقات دولية بدلاً من الاضطرار إلى تكليف حكومة بديلة على عجل قد لا تراعي المصالح التركية».
وشهدت العاصمة الليبية توتراً عسكرياً كاد ينقلب إلى حرب بين قوات «الوحدة» و«جهاز الردع»، إلا أن أنقرة نجحت في عقد اتفاق بينهما، أعاد الهدوء إلى طرابلس.