بعد مرور قرابة 6 عقود على اغتيال الزعيم الحقوقي الأميركي مارتن لوثر كينج الابن، أفرجت الولايات المتحدة عن آلاف السجلات السرية المتعلقة بالقضية، في خطوة مثيرة أعادت فتح ملف من أكثر الأحداث إثارةً للجدل في تاريخ أميركا الحديث.
وجاء الإفراج، الاثنين (بالتوقيت المحلي)، ضمن تعليمات أصدرتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وفقاً لما نقلته شبكة CBS الأميركية.
وقال مكتب مديرة الاستخبارات الأميركية إن “الوثائق التي يزيد عددها على 230 ألفاً، لم تُرقمن قط، وكانت محفوظة في منشآت موزعة على مختلف مرافق الحكومة الفيدرالية، طيلة عقودٍ من الزمن، حتى تراكمت عليها طبقات الغبار اليوم”.
ويُعد كينج شخصية بارزة في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وذاع صيته بسبب دعوته إلى اللاعنف كوسيلة لتحقيق التغيير الاجتماعي. ومنذ عام 1955، عندما برز كقائد خلال حملة مقاطعة حافلات مونتجومري، وحتى اغتياله عام 1968، كان كينج موضع إعجاب وكراهية في آن واحد في حملته لتحقيق المساواة العرقية.
نضال مبكر
لعب لوثر كينج الابن أيضاً دوراً فاعلاً وجسراً بين الانقسامات المجتمعية، ويتضح ذلك من خلال علاقاته بمراكز القوة السياسية (مثل البيت الأبيض) والدينية (مثل الفاتيكان).
وفي عام 1964، أصبح في سن 35 أصغر شخص يحصل على جائزة نوبل للسلام، كما كان ثاني أميركي من أصل إفريقي يحصل على الجائزة، والثاني عشر على مستوى الأميركيين عموماً.
وُلد باسم مايكل كينج في 15 يناير 1929 بأتلانتا، جورجيا، وكان الابن الأول والثاني بين أطفال القس المعمداني مايكل لوثر كينج الأب، وزوجته ألبرتا ويليامز، وهي بدورها ابنة القس آدم دانيال ويليامز، راعي كنيسة إبنزر المعمدانية.
عندما كان كينج في الثانية من عمره، توفي جده من جهة الأم وتولى والده منصب الراعي.
وفي عام 1935، غيّر والده اسمه واسم ابنه من مايكل إلى مارتن، تكريماً للمصلح الديني مارتن لوثر.
والتحق مارتن لوثر كينج الابن بمدرسة “يونج ستريت” الابتدائية المخصصة للأميركيين السود. ونظراً لمكانة العائلة الدينية، لم يتأثروا اقتصادياً بالكساد العظيم، لكنهم عانوا من التمييز العنصري والفصل، وهو ما كان والده يندد به بشدة.
بعد إنهاء دراسته الابتدائية، التحق كينج بمدرسة “لابوراتوري هاي سكول” التابعة لجامعة أتلانتا حتى أُغلقت عام 1942، لينتقل بعدها إلى مدرسة “بوكر تي واشنطن الثانوية”، حيث برع أكاديمياً.
معركة الفصل العنصري
تخرج مبكراً في عام 1944، والتحق بكلية مورهاوس في سن الخامسة عشرة، بعد اجتيازه امتحانات القبول.
في البداية، لم يكن متحمساً للدخول في سلك الكهنوت، بسبب شعوره بالإحراج من الطابع العاطفي في الكنائس السوداء. لكن أثناء دراسته في “مورهاوس”، تأثر برئيس الكلية بنجامين ميز، وأستاذ الفلسفة جورج كيلسي، وكلاهما قسيسان.
تخرج كينج من مورهاوس عام 1948، ثم انتقل إلى معهد “كروزر اللاهوتي” في تشيستر، بنسلفانيا، وهو معهد مختلط عرقياً.
كان من بين 6 طلاب فقط من أصول إفريقية، وبرز كطالب متفوق، حتى أنه أخذ دورات إضافية في الفلسفة بجامعة بنسلفانيا. وهناك تعرّف على أفكار المهاتما غاندي، وتبنى قناعته بأن المقاومة السلمية يمكن أن تُستخدم لتحويل الغضب والإحباط إلى قوة إيجابية للتغيير.
بعد تخرجه، حصل على منحة دراسية للدراسات العليا، والتحق ببرنامج الدكتوراه في جامعة بوسطن، وواصل أخذ دورات فلسفية في جامعة هارفارد.
أكمل متطلبات الدكتوراه الأكاديمية في عام 1953، وبدأ بكتابة أطروحته بعنوان “مقارنة بين مفاهيم الله عند بول تيليش وهنري نيلسون وييمان”. وحصل على الدكتوراه في يونيو 1955.
خلال عطلات الصيف، كان كينج يعود إلى أتلانتا لإلقاء الخطب في كنيسة إبنزر، وفي عام 1954، وقبل الانتهاء من أطروحته، قًبل منصب راعٍ في كنيسة “ديكستر أفينيو” المعمدانية في مونتجومري، ألاباما.
دعا كينج المصلين إلى الانخراط في الشؤون المجتمعية، وركّز على أهمية التسجيل للتصويت والانضمام إلى الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين (NAACP)، التي كان عضواً في لجنتها التنفيذية.
وبعد أشهر من نيله الدكتوراه، جاءت الفرصة لتطبيق أفكاره. ففي 1 ديسمبر 1955، رفضت الخياطة روزا باركس التنازل عن مقعدها لشخص أبيض على متن حافلة في مونتجومري، ما أدى إلى اعتقالها وإطلاق مقاطعة للنقل العام من قبل السكان السود.
تولى كينج قيادة الحركة، مطبقاً مبادئ العصيان المدني، ليصبح شخصية وطنية بارزة، خصوصاً بعد اعتقاله.
استمرت المقاطعة أكثر من عام، وتعرض منزله للتفجير مرتين، وتلقى تهديدات عديدة. وفي النهاية، أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكماً بعدم دستورية الفصل العنصري في الحافلات.
اللقاء مع الرئيس كينيدي
في عام 1957، أسس كينج مع آخرين مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية (SCLC) لتنسيق نشاطات حركة الحقوق المدنية، وتم تعيينه رئيساً له، وبدأ جدولاً حافلاً بالمحاضرات والسفر.
كتب خلال هذه الفترة سيرته الذاتية عن المقاطعة بعنوان “خطوة نحو الحرية” (1958). وخلال ظهوره للترويج للكتاب، تعرض للطعن على يد امرأة مضطربة عقلياً.
غادر كينج مونتجومري وعاد إلى أتلانتا ليصبح قسيساً مشاركاً مع والده في كنيسة إبنزر. شجع على التظاهرات السلمية مثل الاعتصامات في المطاعم والمسارح وغيرها.
التقى بالرئيس جون كينيدي في أكتوبر 1962 للضغط من أجل دعم أقوى من الحكومة الديمقراطية. وفي عام 1963، قاد احتجاجاً في برمنجهام، ألاباما، تم اعتقاله خلاله، وكتب “رسالة من سجن برمنجهام” رداً على رجال دين بيض انتقدوه.
ونشر الإعلام صوراً تظهر وحشية الشرطة، ما أثار تعاطفاً عالمياً، وأدى إلى البدء ببرنامج تدريجي لإلغاء الفصل في المدينة. أدرج كينج أحداث برمنجهام في كتابه “لماذا لا يمكننا الانتظار” (1964).
“لدي حلم”
في أغسطس 1963، قاد كينج أكبر مظاهرة للحقوق المدنية في تاريخ الولايات المتحدة حتى ذلك الوقت “مسيرة واشنطن من أجل العمل والحرية”، وشارك فيها نحو ربع مليون شخص، منهم أكثر من 60 ألفاً من البيض. ألقى كينج خطبته الشهيرة “لدي حلم” أمام نصب لنكولن التذكاري، واختارته مجلة تايم رجل العام.
رغم تمرير قانون الحقوق المدنية في 1964، شعر كينج بأنه لا يزال بداية فقط، واندلعت اضطرابات في عدة مدن. زار الفاتيكان والتقى البابا بولس السادس. وفي نهاية عام 1964، حصل على جائزة نوبل للسلام، وتبرع بقيمتها لجهات تدافع عن المساواة، منها الـSCLC.
واجه السود في الجنوب تحديات حتى بعد قانون 1964، خاصة في التصويت. وقاد كينج مسيرة في مدينة سلمى بألاباما، ومسيرة أخرى إلى العاصمة مونتجومري، ما دفع الكونجرس لإصدار قانون حقوق التصويت لعام 1965، الذي ألغى الضرائب على التصويت واختبارات محو الأمية، ومنح الحكومة الفيدرالية صلاحية مراقبة الانتخابات.
وأطلق كينج حملة في شيكاجو بالتعاون مع SCLC للتوعية بالفقر الحضري والتمييز، لكن العنصرية المؤسسية في الشمال كانت أصعب على الاختراق، لأنها كانت أكثر خفية.
في عام 1967، بدأ كينج معارضة علنية لحرب فيتنام، وبدأ التخطيط لـ”حملة الفقراء”، وهي مسيرة إلى واشنطن للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية للفقراء. وأثناء رحلاته للتحضير للحملة، دُعي لإلقاء خطاب في ممفيس، حيث كان عمال النظافة مضربين.
في 28 مارس، تحولت مظاهرة ممفيس إلى أعمال عنف، لكن كينج وعد بالعودة لتنظيم مظاهرة سلمية. وفعلاً، عاد في أوائل أبريل، واغتيل في 4 أبريل 1968، أثناء وقوفه على شرفة فندق لورين. كان عمره 39 سنة.
وفي عام 1969، اعترف جيمس إيرل راي، وهو رجل في الأربعين من عمره، كان قد فرّ من سجن في ولاية ميزوري عام 1967 أثناء قضائه عقوبة مدتها 20 عاماً بتهمة السرقة، بارتكاب جريمة اغتيال كينج.
وحُكم على راي بالسجن 99 عاماً من قبل محكمة مقاطعة شيلبي الجنائية، ونُقل إلى سجن براشي ماونتن في مدينة بيتروس بولاية تينيسي، حيث توفي عام 1998 بعد قضائه 29 عاماً خلف القضبان، وذلك نتيجة مضاعفات صحية.
خلال دراسته في جامعة بوسطن، تعرف كينج على كوريتا سكوت، طالبة الغناء في معهد نيو إنجلاند للموسيقى. تزوجا في 18 يونيو 1953، وأنجبا أربعة أطفال.
كُرِّم مارتن لوثر كينج بعد وفاته بوسام الحرية الرئاسي عام 1977 من قبل الرئيس جيمي كارتر.
وفي عام 1983، وقّع الرئيس رونالد ريجان قانوناً بجعل يوم كينج عطلة فيدرالية، يتم الاحتفال بها في ثالث يوم اثنين من شهر يناير، وبدأت أول احتفالات رسمية عام 1986. استغرق الأمر 14 سنة لتُقرّ جميع الولايات الخمسين هذه العطلة رسمياً.
