منذ أن قرّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب التوقف عن توفير الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا مع الاستعداد لمواصلة بيعها الأسلحة التي تحتاج إليها بتمويل أوروبي، تجد الدول الأوروبية نفسها في وضع صعب؛ إذ يتعين عليها أن تتحمل وحدها عبء الحرب الأوكرانية.
ومنذ بداية الحرب في فبراير (شباط) من عام 2022، وفّر الأوروبيون مساعدات متنوعة لكييف وصلت إلى 175 مليار يورو. ورغم تأكيدهم في كل مناسبة أنهم جاهزون لمواصلة دعم أوكرانيا، فإن الكثيرين يستشعرون أن العبء ثقيل عليهم وحدهم. من هنا، انطلق البحث عن مصادر تمويل تُحقّق هدفين متلازمين: الأول، من جهة، تمكين كييف من مواصلة الدفاع عن أراضيها في وجه القوات الروسية بانتظار اقتناع الطرفين المتحاربين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق سلام. ومن جهة ثانية، التوقف عن الغرف من الميزانيات المحلية لتلبية متطلبات الرئيس فولوديمير زيلينسكي المتواصلة.

من هنا، كانت استدارتهم، مرة أخرى، نحو الأصول الروسية المجمّدة منذ ثلاث سنوات ونصف السنة في العواصم الأوروبية، وخصوصاً في بلجيكا لدى مؤسسة «يوروكلير» التي تحتفظ بأصول روسية تبلغ 194 مليار يورو. وفي المرحلة الأولى، عثر الأوروبيون على مخرج قانوني يتيح لهم استخدام الفوائد التي تنتجها هذه الأصول لدعم أوكرانيا، والتي بلغت، في النصف الأول من العام الجاري، 2.7 مليار يورو (مقابل 3.4 مليار يورو للفترة نفسها من العام الماضي). والحال أن هذا المبلغ قليل للغاية؛ ولذا بدأ البحث في كيفية استخدام الأصول نفسها؛ ما يعني، عملياً، الاستيلاء عليها، الأمر الذي يثير تحفظات ويتضمن مخاطر رئيسية بالنسبة للسوق المالية الأوروبية.
«قرض التعويضات»
بعد أشهر من البحث، عثر الأوروبيون على الحل الذي يمكّن من الاستجابة التي وضعتها المفوضية الأوروبية ورئاسة المجلس الأوروبي، والتي طُرحت في قمة الاتحاد يوم الخميس في بروكسل بحثاً عن التوصل إلى موافقة مبدئية على السير بها. وتقضي الخطة بتوفير مبلغ 140 مليار يورو كمساعدات لأوكرانيا بشكل دفعات متتالية لعامَي 2026 و2027.

أما الطريقة فعنوانها الحصول على قرض من دون فائدة من مؤسسة «يوروكلير» التي تحتفظ بغالبية الأصول المجمّدة التابعة للبنك المركزي الروسي. بعد ذلك، يقوم الأوروبيون بإقراض هذا المبلغ المسمى «قرض التعويضات» لأوكرانيا، على أن تقوم بسداده بعد انتهاء الحرب، بعد أن تكون موسكو قد سددت التعويضات المتوجبة عليها عن الأضرار التي ألحقتها قواتها بأوكرانيا.
أما إذا رفضت روسيا القيام بذلك، فستبقى الأصول مجمّدة، وبالتالي لن يتعين على كييف تسديده. وبما أن الرأي السائد أن روسيا لن تقبل أبداً دفع أي «روبل» لأوكرانيا، فهذا يعني، عملياً، مصادرة الأموال الروسية وتخفيف العبء عن الميزانيات الأوروبية، والتمكن من الحلول محل الأميركيين بانتظار أن تنتهي الحرب. غير أن قراراً كهذا يفترض إجماعاً أوروبياً؛ نظراً لما يثيره من عقبات قانونية. واللافت أن دولاً عديدة، على رأسها ألمانيا وفرنسا، كانت تعارض هذا التوجه. وبما أن «الحاجة أمّ الاختراع»، فقد غيرت الدول المترددة مقاربتها، ولم يبقَ في الميدان سوى المجر كرافض رسمي وحيد. وليس سراً أن بودابست كانت تعارض دوماً، لقرب رئيس وزرائها، فيكتور أوربان، من الرئيس بوتين، الإجراءات العقابية ضد موسكو، إلا أن الأوروبيين، في قمتهم الأخيرة، التفّوا على ذلك باستحداث مفهوم «إجماع 26 بلداً»؛ أي من خلال إخراج بودابست من المعادلة رغم أن النصوص والمعاهدات الخاصة بالاتحاد لا تنص على أمر كهذا. أما إذا لم يتم العمل بالمفهوم الجديد، فإن الأوروبيين يعولون على «تحالف الراغبين» ليكون ضامناً للقرض الكبير، والتكفل بتسديده في حال نجحت روسيا في استعادة أصولها عبر المحاكم الدولية، أو من خلال التهديد بالسيطرة على الاستثمارات الغربية المباشرة في اقتصادها، والبالغة نحو 285 مليار دولار.
معضلة الأساس القانوني
ليست السيطرة على أصول سيادية أمراً مألوفاً؛ فالمؤسسات المصرفية حذّرت من سابقة مصادرة أصول سيادية؛ لأنها قد تضرب ثقة المستثمرين الأجانب في السندات الحكومية الغربية. كذلك، فإن بلجيكا نبّهت إلى أن عملاً كهذا قد يُعرّض شركة «يوروكلير» لدعاوى قضائية، قد تؤدي في نهاية المطاف إلى أزمة مالية.

والخوف الأكبر أن تستعيد روسيا أموالها؛ ما سيُلزم الأوروبيين بإيفاء قرض الـ140 مليار يورو للشركة البلجيكية باعتبار أن أوكرانيا لن تكون قادرة على القيام بأمر كهذا. أما تخلّف الأوروبيين عن الدفع، فسيفضي إلى انهيار السوق المالية.
هذه الحجج لجأ رئيس وزراء بلجيكا إلى التذكير بها خلال القمة. وقال بارت دو ويفر: «أنا أبحث عن الأساس القانوني لهذا القرار؛ فالأمر ليس تفصيلاً بسيطاً. وحتى خلال الحرب العالمية الثانية، لم تُمسّ الأصول المجمّدة قَطّ». وأضاف بارت دو ويفر أنه إذا تم استخدام الأصول الروسية، فإن موسكو «سوف تعمد إلى مصادرة الشركات الأوروبية، وستتم مصادرة الأموال الغربية المجمّدة هناك أيضاً. وربما تقوم دول صديقة أخرى لموسكو بالعمل نفسه».

واستطرد قائلاً لنظرائه: «تخيّلوا إذا اضطررنا لسداد الـ180 مليار يورو الروسية، بالإضافة إلى التعويضات. سيكون ذلك جنوناً مطلقاً». وما يريده بارت دو ويفر، هو التزام أوروبي يشمل كافة دول الاتحاد بألا تُترك بلاده وحيدة في تحمّل تبعات استخدام الأموال الروسية. ونقلت صحيفة «لو موند» الفرنسية عن المستشار الألماني قوله: «لو كنت رئيساً لوزراء بلجيكا لأثرت المخاطر نفسها».
موسكو تهدد بإجراءات ردعية
كان من المرتقب ألا تبقى موسكو صامتة. وبالفعل، قد نبّهت إلى أن الاستيلاء على أصولها يُعدّ «انتهاكاً للقانون الدولي»، ومن شأنه أن «يستتبع ملاحقات قضائية للدول المعنية به على المستوى الدولي».
وفي الأسابيع الأخيرة، تكاثرت التحذيرات والتهديدات؛ فوصف ديمتري بيسكوف ما يخطط له الأوروبيون بأنه «بكل بساطة سرقة موصوفة»، مضيفاً أن ردّة الفعل الروسية «ستكون بالغة الجدية». من جانبها، أشارت ماريا زاخاروفا إلى أن الأوروبيين «يحاولون الاستيلاء على الأموال الروسية دون خجل»، مضيفة أن «مخطط القروض الاحتيالية الذي يروجون له قد أثار ردود فعل متحفظة للغاية في العديد من العواصم الأوروبية. لكن الرغبة في الاحتيال لا تزال يشوبها الخوف من العواقب القانونية والإجراءات الانتقامية. وأكرر أن الإجراءات (الروسية) ستكون شديدة القسوة». كذلك، أشارت زاخاروفا إلى أن «النظام المالي (العالمي) نفسه سوف يكون مهدداً».

إزاء هذه العقبات، سيعمد الأوروبيون، بلا شك، إلى إيجاد مخارج؛ أحدها إقناع الطرف الأميركي بالاقتداء بهم. لكن واشنطن ليست في هذا الوارد، وسياسة الرئيس ترمب متأرجحة كما برز في أكثر من مناسبة. كذلك، فإن التعويل على «تحالف الراغبين» للتحايل على قاعدة الإجماع الأوروبي ليس مضمون النتائج؛ لأن الموانع التي تعوق الاتحاد الأوروبي ستكون هي نفسها عند تجمع يضم 35 دولة. وفي أي حال، فإن الأسابيع القادمة يُفترض أن توفر صورة أوضح عن الخطة الأوروبية، أكانت في هذا الاتجاه أو ذاك.

