
كتب هاني المصري في صحيفة العربي الجديد.
بعد اقتراب الانتهاء من تنفيذ المرحلة الأولى من خطّة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تتزايد الشكوك حول إمكانية المضي في المراحل التالية، فبعد تسليم الجثامين الإسرائيلية الستّة المتبقّية، فإن هامش المناورة أمام الحكومة الإسرائيلية سيضيق، خصوصاً بعدما ربطت الانتقال إلى المرحلة الثانية بشروط مخالفة للخطّة نفسها، أبرزها الإفراج عن الجثامين. إلى جانب ذلك، تواصل إسرائيل خرق اتفاق وقف إطلاق النار بعدم الالتزام بفتح معبر رفح، والسماح بدخول ربع المساعدات الإنسانية فقط، المتفق عليها، فضلاً عن خرق متواصل لوقف إطلاق النار، أدّى إلى استشهاد أكثر من 250 فلسطينياً وإصابة أعداد كبيرة، وتدمير ممتدّ لما تبقّى من منازل وبنايات وبنية تحتية، خصوصاً في المناطق التي لا تزال تحت السيطرة المباشرة للاحتلال. وأكبر دليل على أن خطّة ترامب محكومة بالفشل مسودّة مشروع القرار الأميركي المقدَّم إلى مجلس الأمن، وتحمل مخاطر جسيمة تتجاوز ما تُظهره من آمال، فالمسودة لا تجعل مجلس الأمن مرجعية لـ”قوة الاستقرار الدولية” المقترحة، بل تمنحه صلاحية تشكيلها فقط، من دون أن يكون مسؤولاً عن مراقبة عملها أو محاسبتها. الأخطر أن هذه القوة تُكلَّف بمهام تنفيذية تشمل نزع السلاح، رغم أن القرار لا يستند إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة. وهذا يعني عملياً فرض وصاية استعمارية على قطاع غزّة بشرعية دولية، تحت غطاء “مجلس السلام” الذي يترأسّه ترامب، ويعاونه طوني بلير أو جاريد كوشنر، أو شخصيات مشابهة.
ما يجري في غزّة ليس إعادة إعمار فحسب، بل محاولة لإقامة ‘ريفييرا شرق أوسطية’ في جزء من القطاع، مقابل استمرار الحصار
تتحدّث الخطة عن “قوة استقرار دولية” تشارك فيها قوات عربية وأجنبية، تتولّى فرض الأمن ونزع السلاح، لا حفظ السلام. كما أن انتشارها قد يتم قبل انسحاب القوات الإسرائيلية أو بالتزامن معه، أو بعد انسحابها إلى خطّ جديد وبقائها في الشريط العازل، ما يفتح الباب أمام تعدّد السلطات وتنازع الصلاحيات واحتمال الصدام المسلّح. ويزيد الأمر تعقيداً أن نتنياهو يسعى إلى الحصول على ضمانات أميركية تسمح باستمرار العدوان الإسرائيلي بذريعة الحفاظ على “الأمن القومي الإسرائيلي”، وهو ما يعني أن الاحتلال سيبقى اللاعب المركزي حتى بوجود قوة دولية.
الواقع المتوقع في حال تنفيذ الخطّة تعدّد الجهات المسلّحة في القطاع؛ قوات عربية وأجنبية ضمن “قوة الاستقرار”؛ وعناصر الشرطة الفلسطينية التي ستُدرَّب في مصر والأردن؛ وعناصر الشرطة التابعة لسلطة الأمر الواقع في غزّة؛ والأجنحة العسكرية للفصائل والمليشيات المحلّية التابعة للعائلات؛ والمليشيات العميلة التابعة للاحتلال. ويشكّل تعدّد المرجعيات هذا وصفة للفشل المُحتَّم، بل ربّما للفوضى والصدامات الدامية. ولهذا السبب، تتردّد الدول المُرشَّحة للمشاركة في القوة إذا لم تتغيّر صيغة القرار جذرياً وتُضبط آليات التنسيق والانسحاب الإسرائيلي الكامل.
يقضي مشروع القرار بتشكيل “مجلس السلام” برئاسة ترامب، ليكون سلطةً انتقاليةً تحكم سنتَين قابلةً للتمديد، أي بلا سقف زمني واضح ونهائي. وسيتحكّم هذا المجلس بالقرار الفلسطيني وبمصير قطاع غزّة ريثما تقوم السلطة الفلسطينية بإصلاح “مُرضٍ”، وفقًا لتقدير مجلس الأمن، وليس وفق الإرادة الفلسطينية. حتى إعادة الإعمار وفتح المعابر يُراد ربطهما بشروط سياسية وأمنية، مثل نزع سلاح المقاومة، وتخلّي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن الحكم، واستبعاد السلطة الفلسطينية عن الإدارة المباشرة، وإذا لم يتمّ “إزالة التطرّف” من القطاع. بل إن الخطّة تسمح بتطبيق جزئي في المناطق التي تُعتبر “خاليةً من الإرهاب”، ما يعني تكريس تقسيم غزّة بين منطقتَيْن: منطقة خاضعة للدعم والإعمار (“المنطقة الصفراء”)، وأخرى محاصَرة ومعاقَبة ومعرَّضة للاقتحامات والاغتيالات والقصف. وهذا يفتح الباب أمام تهجيرٍ داخليٍّ جديدٍ، وإقامة “ريفييرا شرق أوسطية” في جزء من القطاع، مقابل استمرار الحصار والمعاناة في الجزء الآخر.
يستند البديل الوحيد إلى توافق وطني ديمقراطي كفاحي، يعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس وطنية وديمقراطية واقعية وكفاحية وشراكة حقيقية
هناك سيناريوهات عديدة محتملة، في مقدمها استمرار الوضع الراهن، من دون تقدّم في تنفيذ الخطّة، إذ تواصل إسرائيل السيطرة على أكثر من نصف القطاع، وتستفيد من بقاء “حماس” في الحكم لتكريس الانقسام وفصل الضفة الغربية عن غزّة، واستخدامها لاستمرار الحصار والعدوان. كما تخشى إسرائيل الوقوع في فخّ القوة الدولية أو في فخّ الأفق السياسي الذي قد يقود إلى دولة فلسطينية، خاصة وهي مقبلةٌ على انتخابات داخلية غامضة النتائج، وتزيد فيها حُمّى الانتخابات التطرّفَ والعدوان والعنصرية.
هناك سيناريو صعب التحقيق، تنفيذ الخطّة كما يريدها ترامب. رغم صعوبته، فإنه ممكن في ظلّ تلويح ترامب بخطر تجدّد الحرب في حال عدم تمرير القرار الأميركي. لكن احتمالاته تضعف بسبب الرفض الروسي والصيني لمسودّة القرار، واحتمال استخدامهما حقّ النقض (فيتو)، استناداً إلى المعارضات الفلسطينية والعربية والدولية الواسعة لمسودّة القرار. ويبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً حلٌّ وسط بين مقترح ترامب والمطالب العربية والدولية، فيُمنح للسلطة دورٌ حقيقيٌّ مفتوحٌ على الزيادة والاتساع، ويُربط نزع السلاح بخطوات متدرّجة وموازية تتعلّق بالإعمار والوفاق الوطني والأفق السياسي، مع تهدئة طويلة المدى. قد يحظى هذا السيناريو بقبول دولي، خصوصاً إذا فُوِّض مجلس السلام بصلاحيات رعاية وإشراف ورقابة، وليس الحكم، وكانت مرجعيته مجلس الأمن وليست ترامب، وضُمّت إليه شخصيات عربية ودولية موثوقة، وإذا أزيل التضارب في الصلاحيات بينه وبين التشكيلات المختلفة القائمة، والتي ستُقام. لأنه في هذه الحالة يوازن بين الواقع والممكن والطموح، لكنه يظلّ هشّاً ما لم يُبنَ على وحدة فلسطينية حقيقية وتبلور موقف عربي إسلامي دولي ضاغط على ترامب.
ورغم أن احتمال تجدّد الحرب ليس مرجّحاً، فإنه يبقى سيناريو قائماً. فالأسباب التي أوقفت حرب الإبادة لا يزال معظمها متوافراً، وإسرائيل بدأت تعيش أجواء انتخابات مشحونة بالمزايدة والتطرّف، ما قد يدفع نحو جولات جديدة من العدوان للحصول على أصوات تمكّن أحزاب الائتلاف الحاكم (أو شبيه له) من الفوز مجدّداً، ولكن الحرب ستكون بوتائر مختلفة، ولن تأخذ شكل حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل، وما فشلت في تحقيقه عبر عامَيْن ليس من السهل تحقيقه بعد أن أصبحت إسرائيل معزولةً ومنبوذةً عالمياً، وانتفاضة الشعوب تقف لها بالمرصاد.
السلطة الفلسطينية الحلقة الأضعف، مشلولة، وشرعيتها متآكلة، واستراتيجيتها حفظ البقاء بانتظار سحب الذرائع
تبقى السلطة الفلسطينية الحلقة الأضعف في المشهد. شرعيتها السياسية والشعبية متآكلة، واستراتيجيتها استراتيجية بقاء وانتظار وسحب الذرائع، ومؤسّساتها شبه مشلولة. وإذا لم ترفض خطّة ترامب، خصوصاً مجلس الوصاية الاستعمارية وتفويض “قوة الاستقرار” بصلاحيات فرض الأمن ونزع السلاح بالقوة، من دون أفق سياسي يقود إلى إنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال، وإذا قبلت (ضمنياً أو صراحة) باستبعادها من العملية السياسية الحالية في قطاع غزّة… إذا لم تفعل ذلك، فإنها تُسهّل شطب نفسها من المعادلة لاحقاً في كل مكان. لذا عليها أن تبادر إلى استعادة الشرعية السياسية عبر توافق وطني حقيقي على هدف وطني مركزي وأشكال النضال لتحقيقه، إلى حين الانتخابات التي ينتخب الشعب فيها من يمثله. وتوسيع تمثيل وشرعية لجنة التكنوقراط بمشاركة فصائل ومجتمع مدني وشباب ونساء وشتات، ووضع مرجعية لها وللسلطة ككل، من الأفضل أن تكون الإطار القيادي المؤقّت للمنظمة. وعليها القيام بإصلاحات جوهرية في مؤسّسات السلطة الوطنية ومنظمة التحرير (ينطبق ذلك على الفصائل)، خصوصاً مكافحة الفساد المستشري، التي تستجيب للمصالح والاحتياجات والأولويات الفلسطينية، وليس لإملاءات وشروط الآخرين. وينبغي لها إعلان رفضٍ واضحٍ لأيّ مجلس وصاية أو قوة تسعى إلى نزع السلاح بالقوة، لأن الحقّ بمقاومة الاحتلال والدفاع عن النفس حقّ مُقدَّس. وفي المقابل، على حركة حماس أن تُظهر استعداداً فعلياً للتخلّي عن الحكم مقابل شراكة وطنية حقيقية، ومرجعية وطنية موحَّدة.
خطة ترامب محكومة بالفشل، لأنها تتجاهل جذور الصراع وأسبابه، وتتناقض مع أبسط مقوّمات الحرية والعدالة والسيادة للشعب الفلسطيني، وتعيد إنتاج الاحتلال بصيغة دولية مزخرفة. البديل الوحيد الواقعي فلسطيني يستند إلى توافق وطني ديمقراطي كفاحي، يعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس وطنية وديمقراطية واقعية وكفاحية وشراكة حقيقية، بدل أن يُفرض عليه مجلس وصاية استعماري يقرّر بالنيابة عن الفلسطينيين مَن هو “المؤهل للحكم”، ومَن يستحقّ الحياة والدعم.

