يعد فيلم “هجرة” هو العمل الروائي الطويل الثاني للمخرجة والكاتبة السعودية شهد أمين، بعد تجربتها الأولى “سيدة البحر” عام 2019، الذي عرض لأول مرة في مهرجان فينيسيا، وبعد هذه المسافة الزمنية، تعود شهد هذا العام إلى المهرجان نفسه بفيلمها الجديد، الذي حصد في ختام المهرجان على جائزة “نتباك” لأفضل فيلم آسيوي.
لفت الفيلم الأنظار منذ عرضه الأول بزخم شراكته الإنتاجية، الفيلم إنتاج فيصل بالطيور، محمد الدراجي، محمد حفظي، بالتعاون مع فيلم العلا، كما حظي العمل أيضاً بدعم من مسابقة “ضوء” التابعة لهيئة الأفلام، وصندوق البحر الأحمر، مركز إثراء، والهيئة الملكية لنيوم، أما التصوير فامتد 58 يوماً في مواقع متعددة شملت المدينة المنورة، تبوك، العلا، جدة، نيوم، ضبا، تيماء.
في البدء كان الاختفاء
تبدأ الحكاية في عام 2001، من رحلة حج تقودها الجدة “ستي”، تقوم بالدور الممثلة خيرية نظمي، مع حفيدتيها “جنى”، تقوم بالدور الطفلة لمار فادن، البطلة الرئيسية ذات الاثني عشر عاماً، و”سارة” الحفيدة الأكبر ذات الثمانية عشر عاماً.
أثناء استراحة قصيرة، تختفي “سارة” فجأة، ثم ينقلب المسار كله إلى رحلة بحث طويلة عبر مدن متباينة وطرق صحراوية وبراري قاسية، يتحول الغياب يتول إلى ثغرة في النسيج العائلي، ويكشف عن صراع داخلي بين جيل غارق في الخوف والذاكرة، وجيل يبحث عن مساحة أوسع للحرية والاختيار.
تقف الجدة في مواجهة الفقد بصرامة، تخفي ارتباكها العميق، بينما تبدأ “جنى” كطفلة لكنها تدخل سريعاً إلى أفق الوعي الجديد، أما شخصية “سارة” والتي بدأت القصة في رحلة البحث عنها، تغيب عن الشاشة بينما يبقى اسمها حضوراً ضاغطاً يحرك كل شيء من دون أن تُفصَّل دوافعها، هنا تكمن الحكاية: قصة هروب بسيطة وسريعة، لكن التشعبات الرمزية التي تليها تتفرع من هذا الغياب.
لغة الأمكنة
الطريق في الفيلم لا يُعطى بوصفه ممراً للحركة فحسب، و لا يسير كإطار بوليسي، لكنه يظهر كقوة درامية موازية للشخصيات. الصحراء الممتدة بلا نهاية، الجبال التي تلوح في الأفق، المدن الصغيرة التي يعبرونها، والطقس القاسي، كلها مناخات وأمكنة تتحول إلى لغة موازية للحوارات داخل الفيلم.
الطبيعة تكتفي في البداية بأن تكون خلفية تصويرية، ثم تستولي لاحقاً على المشهد، تمارس ضغوطها على الشخصيات وتكشف مقاومتها. عندما تعبر الجدة مع “جنى” طريقاً مقفراً، ينعكس الفراغ المرئي على الفراغ العاطفي الذي خلّفه غياب “سارة” واحساسهم بالمسؤولية.
وعندما يهبط البرد القارس، يتحول إلى صورة مكثفة عن قسوة الواقع الذي يواجهانه، هل كان المكان لوحة جميلة أو بطاقة تعريفية؟ربما! لكن القصة اقتضت أن يشكل فضاءً يوسّع التجربة ويجعلها اختباراً وجودياً.
ثلاثة على الطريق
في غمرة البحث عن الفتاة المفقودة التي هربت لنيل حريتها، يسرب الفيلم الأفكار السائدة في تلك الحقبة الزمنية، لايسعنا ذكرها هنا، إذ يعلمها جيداً كل من عاصر فترة الصحوة، عملية تسرب المعتقدات وطريقة تلقيها كانت عبر الشخصيات الثلاثة الرئيسية: “ستي” و”أحمد” و”جنى”.
منحت الممثلة خيرية نظمي في دور “ستي” حضوراً متماوجاً بين صرامة تحاول التماسك، وخوف يتسرب من ملامحها، إذ تسرد في الوقت المستقطع مع حفيدتها الصغيرة لتتحدث عن هوية عائلتها وطريقة قدومهم إلى البلاد، أو تتسامر معها ليلاً لتخبرها أسرار النجوم بيقين الأمهات، هي الذاكرة الثقيلة التي تجرّ خلفها جيلًا كاملًا.
كما أظهرت شخصية “جنى” وهي تنتقل من البراءة إلى وعي جديد، بنظرات تفيض بالتساؤل وصمت ينطق أكثر من الكلمات، بينما حضور “سارة” الغائبة ظل طاغياً، وبقي رمزاً أكثر من كونه شخصية مكتملة، وكأن الفيلم أراد أن يجعلها رمزية على التمرد غير المسموح به، أو على الطريق الذي لا نعرف نهايته.
في قلب الرحلة يبرز السائق “أحمد”، (يقوم بدوره الممثل نواف الظفيري)، إذ يظهر في بداية إطلالته المشهدية نزقاً ومراوغاً، يبيع أحمد ماءً مغشوشاً للحجاج على أنه ماء زمزم، و يتعامل مع الجدة وحفيدتها بخشونة، ليتركهما في منتصف الطريق بلا رحمة.
تفاصيل تجعل من الشخصية تختزل بـ”ابن الفوضى”، بدون أوراق رسمية، بدون رخصة، مطلوب للعدالة، لكنه يعود لاحقاً ليعرض المساعدة، فيكشف وجهاً آخر يضمر نزعة إنسانية خيرة.
شخصية المحتال الذي يمزج بين الجلافة و خفة الظل، يثبت أن الشخصيات الرمادية قادرة على حمل التناقض، هذا التحول يجعله أكثر من مجرد شرير أو انتهازي ثانوي.
وفي الذاكرة السينمائية العربية طيف من السائقين والمهربين والباعة الجوالين الذين يعيشون على الغش و الخداع و السرقة والخروج عن القانون، لكنهم يحتفظون بقدرة غامضة على لحظة صدق عابرة.
تعيد المخرجة “شهد” صياغة هذا النموذج في سياق سعودي شديد المحلية، حيث الحدود بين القانوني واللاقانوني متشابكة، وحيث السوق السوداء والهشاشة الاجتماعية تفرز بشراً يقفون على التخوم.
أهمية “أحمد” تتضح أيضاً في خط العلاقة مع “جنى”، إذ لا يتعامل معها بعداء مباشر، بل ينسج خيطاً من الود الحذر، والطرافة بين تمضية الوقت في ممارسة لعبة الكلام أو دندنة الأغنيات الإنجليزية، علاقة وديّة تشكل ما يمكن تسميته بـ”خط الظل”.
هنا تجد “جنى” نفسها أمام وجه آخر للعالم، وجه لا يختصره الخوف ولا التقاليد، وجه الراحة والمؤانسة من جانبها والالتباس والاحتمال من جانب الجدة.
أثناء ذلك يسير الإيقاع بتمهل شديد مع كل محطة، يترك للمشاهد وقتاً طويلاً مع الطريق والصمت والانتظار، قد يشعر المشاهد أحياناً بتيه يمتد أكثر مما يحتمل، وقد ينسى غاية هذه الرحلة الطويلة التي بدأت بالبحث عن فتاة هاربة، وأحياناً يجد في هذا البطء فرصة للتأمل في ثقل الزمن النفسي.
يتبين بعد مرور ساعة من العرض، أن العمل لا يبحث عن تصعيد درامي خطي، لكنه يؤثث إقامة طويلة في الحالة، الإقامة في المشهد حتى يستنزف طاقته، بهذا يصبح الطريق والأمكنة المتفرعة هما قلب المعنى، والبطء اختيار مقصود لمنح التجربة هوية المكان.
المنعطف الجديد وتعدد القراءات
تطول رحلة الجدة وحفيدتها والسائق النزق، في مفارقات عدة تعكس طبيعة الأعراف و الممارسات الروحانية و حديث النجوم الليلي، ومفارقة الحداثة بزهد الرحلة الديني، وإلقاء الضوء على تعدد الأعراق في المنطقة الغربية، خيوط ممتدة ورمزيات مكثفة لأحداث واقعية في تكوينها وحوارها وتأسيسها.
لكن، حين تصل الحكاية إلى نهايتها، تنفتح فجأة على صورة تحمل ملمحاً من الواقعية السحرية! مشهدية خالية من التوتر أو الارتباك أو الفزع، حالة من السكينة، في مشهد يصوغ الختام بصورة رمزية مفتوحة. الفيلم الذي ظل طوال الوقت أقرب إلى الدراما الواقعية، يترك في اللحظة الأخيرة باباً لشعرية تتجاوز المنطق المباشر.
الخاتمة تحتمل تأويلات شتى: قد تُقرأ كولادة زمن جديد تنفصل فيه الجدة عن عبء الماضي، وقد تُفهم كتجسيد للانتقال من ذاكرة مثقلة إلى وعي أكثر صفاء، وقد تبدو كبشارة بقدرة الجيل الصغير على مواجهة وحدته بلا خوف، الخاتمة بدلاً من أن تُغلق القصة للوصول إلى نهاية الطريق، قامت بتوسعها نحو رمزية أكثر اتساعاً، وتركت المشاهد محاطاً بالأسئلة.
يظهر “هجرة” كفيلم طريق في جوهره، لكن الطريق أبى أن يبقى في مسافة بين نقطتين، وتحول إلى فضاء رمزي، كرمزية “سارة” الغائبة علامة على الحرية المفقودة، “أحمد” صورة للهامش الاجتماعي، الجدة “ستي” اختزال لتقاليد مثقلة بالذاكرة، جنى وجه جيل يختبر بداياته.
الخالة والجدة صورة التمرد المبكر على التقاليد، تتشابك هذه الخيوط لتفتح للفيلم نافذة على مستويات متعددة: قراءة اجتماعية تتعلق بالتحولات الداخلية في المجتمع، قراءة نفسية حول الخوف والفقد، قراءة جندرية تكشف عن حضور المرأة كقوة محركة للسرد، قراءات معيشية تركز على تدابير الحياة اليومية لمن هم في الهامش، وقراءة وجودية تنظر إلى الطريق كاستعارة عن عبور الإنسان من طور إلى طور.
تجربة “هجرة” تكشف عن مفترق طرق في السينما السعودية. الصورة متقنة، فرق الإنتاج محترفة، المواقع موظفة بذكاء، والعناصر التقنية في مستوى عالمي.
النص في المقابل يحتاج إلى صقل أكبر، سواء في بناء الشخصيات أو في ضبط الإيقاع بين التأمل والسرد، التفاوت بين الشكل المتقدم والخطوط الدرامية المثقلة والمتفرعة لا يلغي كينونة الفيلم، بقدر انعكاس كمرآة لمرحلة بأكملها: مرحلة أثبتت فيها السينما السعودية أنها تمتلك الأدوات العالمية، لكنها تبحث عن صوتها السردي.
“هجرة” في النهاية عمل يثير الأسئلة أكثر مما يقدّم الأجوبة في حل ألغاز “الاختفاء والبحث”، إذ يضع المشاهد أمام رحلة مفتوحة على الاحتمالات، مثل الطريق ذاته، ممدود بلا نهاية واضحة، ومثقل بوعود لم تُختبر بعد.