كتيت سالمة الموشي في صحيفة إندبندنت عربية.
في وقت تشهد المنطقة تحولات استراتيجية متسارعة، جاء عقد المؤتمر الرابع للحوار العربي- الإيراني في قطر كمحطة لافتة في مسار لا يزال محفوفاً بالتحديات والتوجسات المتبادلة. وإذ لم يكُن المؤتمر مجرد فعالية بروتوكولية بل مؤشراً إلى أن الطرفين على رغم التباينات العميقة يدركان ضرورة فتح قنوات تفاهم واقعية تتجاوز الشعارات وتلامس المصالح المباشرة، ومن هنا تبنى المؤتمر شعار “علاقات قوية ومصالح مشتركة”، فاجتمع ممثلون من دول مجلس التعاون الخليجي بما فيها السعودية ولبنان والعراق وسوريا واليمن وإيران في الدوحة من الـ10 إلى الـ12 من مايو (أيار) الجاري خلال المؤتمر الرابع للحوار العربي- الإيراني إلى طاولة حوار دبلوماسي مشترك، وعلى رغم أهمية الحوار العربي- الإيراني في هذه المرحلة الدقيقة من التحولات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط اليوم، فإن المؤتمر مرّ من دون أن يحظى بتغطية إعلامية تتناسب مع حساسيته السياسية ووزنه الاستراتيجي. وفي قراءتي للمشهد فإن غياب الإعلام عن الحدث لم يكُن محض صدفة، بل انعكاساً لطبيعة الحوار ذاته، حوار معقد تتداخل فيه الملفات الأمنية والثقافية وتدار فيه التباينات بهدوء يفوق الخطاب العلني.
إن غياب أو خفض أهمية الظهور الإعلامي في هذا السياق لا يعني ضعفاً في المضامين المتوقعة أو المطروحة، بل ربما يكون مقصوداً لضمان مرونة المسار التفاوضي وتهيئة بيئة أقل توتراً لمقاربة القضايا الخلافية على مستويات عدة، من بينها الحوار العربي- الإيراني كجزء منها، بينما تحتل الأهمية السياسة المساحة الأكبر والأشمل وحين تكون الملفات دقيقة تدار بخطاب منخفض النبرة يقدم النتائج على التصريحات.
من هنا فإن الغياب الإعلامي لا يلغي أهمية المؤتمر الرابع للحوار العربي- الإيراني في قطر، بل يفتح باباً لقراءة أكثر عمقاً في طبيعة ما دار وما يمكن أن ينبني عليه لاحقاً، إحداها أن المؤتمر لم يكُن محاطاً بضجيج إعلامي كما جرت العادة خلال مؤتمرات إقليمية من هذا النوع، بل اختار أن يتخفى خلف هدوء دبلوماسي ربما لأن ما يختبر في مثل هذه المنصات ليس بالضرورة حلولاً، بل حدود الاحتمال ذاته. والجلسات المغلقة التي احتضنها مركز الدوحة الدولي للحوار حضرتها شخصيات دبلوماسية وفكرية من الجانبين، أبرزهم عن الجانب الإيراني وزير الخارجية وعضو الفريق التفاوضي النووي عباس عراقجي، بينما شارك من الجانب العربي خبراء ودبلوماسيون من دول الخليج والعراق ولبنان إلى جانب شخصيات أكاديمية.
وعقد اللقاء ضمن بيئة قطرية صممت بدقة على ألا تظهر تفوق طرف، بل تمنح كل طرف مساحة لاستعراض ما بقي من أدوات التأثير. وتلك البيئة الرمزية التي برعت قطر في هندستها وأرادت أن تكون وسيطاً ناعماً لا يدعي الحياد لكنه يدير الحدث بإتقان. هنا يتجلى المعنى الأعمق لما سمّاه بعضهم “دبلوماسية الظلال”، تلك القنوات التي لا تصدر بيانات ختامية لكنها تترك خلفها أثراً دقيقاً في المساحة الدبلوماسية والسياسية بين الأطراف كافة.
وكان الجانبان العربي والإيراني يتشاركان إدراكاً عميقاً لحقيقة مفادها، لا يمكن لأي طرف أن يواصل إدارة الحوار على مستوى المنطقة بوسائل وأدوات الأمس. وإيران التي جاءت إلى الحوار ليست تلك التي تلوّح بالصواريخ، بل هي إيران التي تبحث عن خطاب جديد أكثر قابلية للتصدير والتقبل وأقل إثارة للقلق، فيما أبدى الجانب العربي استعداداً مسؤولاً لتقبل لغة الحوار.
عباس عراقجي وبلغة سياسية محسوبة خلال المؤتمر قال “إيران لا تسعى إلى امتلاك السلاح النووي وهو محرم شرعاً، لكننا نرفض أن تفرض علينا معايير مزدوجة في التعامل مع أمننا”، وهذه العبارة على رغم تكرارها ليست ضمن سياق حوار عربي- إيراني غير عسكري ولكنها ذكرت. وإيران اختارت أن تجعل من المؤتمر منصة لتلميع صورتها، لكنها لم تتخلَّ عن برودها الاستراتيجي الذي تجيده كل مرة ضمن المساحات الرمادية.
في المقابل كانت المواقف العربية حذرة، فلم تبدِ وفود الدول الخليجية من السعودية والإمارات والكويت حماسة مفرطة، بل مارست نوعاً من “التواصل الناعم” قوامه الإصغاء. وبعض المداخلات الخليجية عبّرت عن استعداد مبدئي لاستمرار الحوار لكن بشروط، بمعنى أن الخطاب العربي لم يكُن تصالحياً بقدر ما كان اختباراً لقدرة إيران على مراجعة أدواتها الإقليمية، مما يمكن تسميته حواراً مشروطاً، فتكون الطاولة موجودة، طاولة الحوار، لكن لا أحد يضع كل أوراقه فوقها. وهو حوار تختبر فيه النيات لا السياسات، وهنا يظهر البعد الدبلوماسي العميق، فمجرد الجلوس مع طرف مختلف جذرياً في الرؤية والمنهج بحدّ ذاته اعتراف بمركزية الحوار كأداة توازن في إقليم اعتاد أن يكون على حافة الحرب.
ومن منظور ثقافي ودبلوماسي فإن المؤتمر مثّل مسرحاً لتجريب أدوات “القوة الناعمة المؤسسية”، فبدلاً من الحديث عن الاتفاقات الأمنية جرى التركيز على الإعلام والتعليم والفنون والتعليم الديني والهوية. وهنا يكمن التحول الجوهري، من محاولة كسب المعركة إلى محاولة إعادة تعريف أرض المعركة.
وفي قراءة لجانب آخر من سياق هذا المؤتمر للحوار العربي- الإيراني، نجد أن الحال الفكرية التي صاحبت المؤتمر كانت تعج بتساؤلات غير مباشرة لعل أبرزها، هل بإمكان خطاب “الإقليمية الثقافية” أن يزيح مركزية الخطاب الأمني؟ وهل يمكن إعادة هندسة العلاقات العربية- الإيرانية من خلال سرديات تتجاوز النووي والطائفية؟ وهل لدى المثقفين من الجانبين العربي والإيراني ما يكفي من المساحة لإحداث اختراق في صورة الآخر؟ ولماذا هم مغيبون عن طاولة الحوار؟
وضمن تصور مختلف بدا أن قطر ومن خلال تبنّيها هذا المؤتمر، نجحت في إرسال رسالة مزدوجة، فهي من جهة تعزز صورتها كوسيط لا يخشى المناطق الرمادية، ومن جهة أخرى تسعى إلى تدشين منصة يمكن أن تتحول إلى منتدى دائم للحوار العربي- الإيراني لا يختزل توجهه بالدبلوماسية، بل ينفتح على مراكز الفكر والمجتمع المدني، وهذا التوسيع لأفق الحوار هو بحد ذاته أحد أهم مخرجات المؤتمر. أما إيران، فأبدت استعداداً غير معلن للتفاوض عبر الثقافة، إذ ظهر ذلك جلياً في الاقتراح الذي طرحه بعض ممثليها بإنشاء “مراكز دراسات مشتركة” وتبادل الندوات وتعزيز حضور اللغة الفارسية في الجامعات العربية والعكس. وهذه اللغة الجديدة لا تعني أن إيران تراجعت عن الموقف السياسي، بل إنها ربما، ونقول ذلك من باب التفاؤل، تعيد ترتيب أولوياتها بعد أعوام من التورط في حروب الوكالة وبدأت تدرك أن الكلفة السياسية أصبحت أعلى من الفائدة.
ما الذي خرج به المؤتمر في النهاية؟ كممثل للقوة الناعمة بين الطرفين على رغم غياب بيان ختامي ملزم، إلا أن ثلاث نتائج رئيسة يمكن استنتاجها، إقرار مشترك بجدوى الحوار الإقليمي وإن اختلفت الدوافع، إذ لم يكُن الهدف من المؤتمر الوصول إلى حلول آنية، بل كان اعترافاً ضمنياً بأن الحوار بين الأطراف الإقليمية في المنطقة ضرورة حتمية مهما تنوعت الخلفيات الثقافية والتاريخية والمصالح، مما يفتح الباب أمام استمرار الحوارات ويمنحها شرعية تدفع باتجاه مزيد من التفاهم حتى لو كان بطيئاً أو محدوداً في البداية. وبدت هذه المشروعية كإطار يتيح لكل طرف الحفاظ على موقفه من دون الاضطرار إلى تنازلات، مما يجعل الحوار أداة فاعلة لإدارة التوترات بدلاً من تصعيدها والتأسيس لشرعية رمزية لمنصات النقاش الهادئ بين الخلفيات الثقافية المتوترة. فضمن بيئة إقليمية عادة ما تتسم بالتصعيد والصراعات الحادة، يعتبر خلق فضاءات للحوار الهادئ إنجازاً دبلوماسياً بحد ذاته.
إلى حد كبير نجح المؤتمر في إرساء قاعدة رمزية تظهر أن فتح قنوات التواصل ليس ترفاً، بل ضرورة استراتيجية. وهذه الشرعية الرمزية تسمح للفاعلين السياسيين والفكريين أن يعيدوا بناء الثقة تدريجاً وتفتح المجال أمام مبادرات أكثر انفتاحاً وأقل تشدداً، مما يعزز فرص تحقيق استقرار إقليمي نسبي، من بينها القبول الضمني بدمج أدوات الثقافة والإعلام والهوية في صناعة التقارب وليس فقط الأمن والسياسة. وهذه خطوة نوعية اتخذها المؤتمر في إدراك أن بناء جسور التقارب بين الشعوب لا يمكن اختزاله بمجرد مفاوضات سياسية أو أمنية، بل يجب أن يتجاوز ذلك ليشمل مكونات الهوية الثقافية والإعلامية. هكذا يفترض بأن يعكس وعياً متزايداً بأن” القوة الناعمة” لها دور محوري في تغيير الصور النمطية وتخفيف التوترات العميقة. لكن الأهم من ذلك كله هو أن المؤتمر أطلق إشارة رمزية إلى أن لحظة ما بعد العداء بدأت على طاولة الحوار، حتى إن كانت لحظة هشة.
ومن زاوية أخرى يمكن قراءة حدث المؤتمر كمحاولة لخلق تداخل سردي بين ضفتين ظلّتا لعقود تتحدثان بلغتين متصادمتين، فأصبح من الملحّ أن يتقدم المثقف على السياسي في بعض الملفات وأن تفسح الدبلوماسية مساحة لممكنات جديدة. وفي هذا السياق أقترح كرؤية استراتيجية أن تعقد خلال الجلسات المقبلة وبالتوازي مع اللقاءات السياسية جلسات نقاش يمثلها مفكرون ومثقفون وناشرون وإعلاميون وأكاديميون من الطرفين ليعيدوا بناء سردية العلاقة عبر الأدب والإعلام والعمق الحضاري المشترك.
في نهاية الأمر كما يبدو من القراءة الدبلوماسية لما بعد المؤتمر الرابع للحوار العربي – الإيراني، نحن لسنا أمام مصالحة تاريخية ولا انقلاب جيوسياسي بل أمام لحظة “احتمال ناعم”، من الممكن أن تتحول إلى مسار إن وُجدت الإرادة والمبادرة الصادقة من إيران تحديداً أو إنها ستبقى طقساً دبلوماسياً موسمياً. لكن من منطلق قراءتي للمشهد، فإن مجرد فتح نافذة للنقاش هو انتصار على منطق الجدران. والرهان الحقيقي اليوم ليس على حسن النوايا، بل على عبقرية تحويل الحوار إلى فعل والكلمة إلى أداة توازن والثقافة إلى مساحة سيادة رمزية. فحين تكتب السياسة بالتوازي مع خطاب “قوة ناعمة”، فسيحدث التأثير ويتحول الخصم إلى طرف يمكن التفاوض معه. هكذا يصنع السلام لا من فوق، بل من بين الكلمات.