
كتب عبد اللطيف المناوي, في المصري اليوم:
التفاوض ليس مجرد معركة شد وجذب بين طرفين يسعى كل منهما لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، بل هو علم وفن يرتكز على مزيج دقيق من المهارة والحكمة والاستراتيجية. فى جوهره، يقوم التفاوض الناجح على فهم عميق لمصالح الطرف الآخر، والقدرة على تقديم تنازلات مدروسة مقابل مكاسب حقيقية. الأهم من ذلك، أن المفاوض البارع يدرك أن القوة الحقيقية لا تكمن فى فرض الشروط، بل فى إدارة التوازن بين الإصرار والمرونة، واستغلال اللحظات المناسبة للمناورة.
وبينما قد يظن البعض أن التفاوض مع القوى الكبرى يتطلب الانحناء أمامها، أظهرت التجربة الصينية أن الصبر والثبات وامتلاك بدائل واقعية هى أدوات أكثر فاعلية من التنازلات السريعة. لقد نجحت الصين خلال الحرب التجارية مع إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى إعادة تعريف قواعد التفاوض التجارى الدولى. فبينما اعتمدت واشنطن على سياسات حمائية وفرضت رسوما جمركية مرتفعة بهدف الضغط على بكين، تمكنت الصين عبر استراتيجية تفاوضية مدروسة من قلب المعادلة، مبرهنة أن الصبر والمناورة السياسية يمكن أن يحقق نتائج تفوق التوقعات.
الهدنة الجمركية التى تم التوصل إليها رغم المناوشات الإعلامية والمواقف العدائية، كشفت عن قدرة بكين على فرض حضورها التفاوضى. فرغم استمرار متوسط الرسوم الجمركية عند مستويات مرتفعة قاربت ٥٠٪، إلا أن الولايات المتحدة اضطرت إلى خفض رسوم أخرى كانت تبلغ ١٤٥٪، ما شكّل مفاجأة للمراقبين. واعتبر المفاوض الأمريكى السابق ستيفن أولسون أن هذا النجاح الصينى «يغير الديناميكية التفاوضية»، مشيراً إلى أن واشنطن بدأت تدرك محدودية قدرتها على فرض شروطها حتى أمام خصم يتمتع بثقل اقتصادى وسياسى كالصين.
هذا الإنجاز لم يبق حبيس العلاقات الثنائية، بل انعكست تداعياته على مواقف قوى كبرى مثل كوريا الجنوبية واليابان والاتحاد الأوروبى، الذين ربما يعيدوا تقييم نهجهم التفاوضى تجاه الولايات المتحدة. كوريا الجنوبية تخلّت عن أسلوب التسرع فى إبرام الاتفاقات، بينما فضّلت اليابان تأجيل التفاهمات لما بعد استحقاقاتها الانتخابية، إدراكاً منها لأهمية التمهل فى وجه ضغوط واشنطن.
أما الاتحاد الأوروبى، فقد أبدى شكوكاً متزايدة بشأن فعالية سياسة الانتظار والصبر، بعدما لاحظ أن الاتفاق بين بكين وواشنطن لم يسفر عن نتائج كبرى. المفوض الأوروبى للتجارة فالديس دومبروفسكيس صرّح بأن تلك الاتفاقات لم تعالج القضايا العميقة، مما دفع بروكسل إلى مراجعة خياراتها التفاوضية، رغم الانقسامات الداخلية التى أضعفت موقفها الجماعى.
النجاح الصينى لم يكن صدفة؛ بل كان نتاج مزيج من الانضباط السياسى والقدرة على الصمود الاقتصادى. لقد أثبتت الصين أن حسن إدارة أوراق القوة، مع التمسك بالثوابت، يمكن أن يُجبر حتى أقوى الخصوم على مراجعة مواقفهم. وهكذا، قدّمت الصين درساً عملياً للعالم فى فن التفاوض مع واشنطن أن الثبات والمناورة الذكية أقوى من الضغوط الآنية.
تبقى التجربة الصينية درساً بليغاً فى أن التفاوض الذكى والمثابرة المدروسة قادران على كسر أشد التحديات صلابة فى كافة المجالات، اقتصاد كان أو سياسة أو غيرها.