
يعيش لبنان هذه الأيام واحدة من أسوأ أزمات المياه في تاريخه الحديث. فبلد الأنهار والينابيع والثلوج يتحوّل تدريجياً إلى بلد العطش، حيث بات الحصول على المياه مسألة قدرة مالية أكثر منها حقاً أساسياً، فيما تتحكّم “مافيا الصهاريج” برقاب المواطنين وتحوّل النقص في المياه إلى تجارة مزدهرة.
وأزمة المياه في لبنان ليست طارئة بل هي تعود إلى عقود من الإهمال وسوء الإدارة. فشبكات التوزيع المتهالكة تفقد أكثر من نصف المياه قبل وصولها إلى المنازل، والبنية التحتية التي تعود بمعظمها إلى منتصف القرن الماضي لم تُجدّد يوماً بما يتناسب مع النمو السكاني والتوسع العمراني خصوصا بعد الحرب الأهلية التي عصفت في لبنان.
ومع غياب التخطيط المائي المتكامل، تحوّلت الثروة المائية من مورد استراتيجي إلى عبء يثقل كاهل المواطنين والدولة معاً.
وفي ظل عجز مؤسسات الدولة عن إدارة قطاع المياه بفعالية، كان من الطبيعي أن يملأ الفراغ شبكات مصالح خاصة تُعرف شعبياً بـ“مافيا الصهاريج”. هذه الشبكات تتحكّم بأسعار المياه ونقلها وتوزيعها، فتفرض كلفة مرتفعة على المنازل، خصوصاً في فصل الصيف عندما تشحّ المياه في الخزانات العامة. أما المواطن، فليس أمامه سوى القبول بالأمر الواقع أو المخاطرة بالبقاء عطِشاً.
وارتفاع كلفة المياه أضاف عبئاً جديداً على ميزانيات الأسر، خصوصاً في المناطق الفقيرة. كما انعكست الأزمة على القطاعات الإنتاجية، من الزراعة إلى الصناعات الغذائية، حيث تراجع الإنتاج وارتفعت الأسعار، وترافق ذلك مع أزمة ثقة متنامية بين المواطن والدولة، بعدما أصبحت أبسط مقومات الحياة تُدار خارج الإطار الرسمي.
وقد أدّت الفوضى في استخدام هذه الموارد من قبل تجار المياه إلى استنزاف الآبار الجوفية وتلوّث الأنهار نتيجة غياب محطات المعالجة وسوء تنظيم الحفر العشوائي للآبار. ومع تراجع معدلات تساقط مياه الشتاء وارتفاع درجات الحرارة، تتفاقم الأزمة لتصبح مسألة بقاء بيئي بقدر ما هي أزمة معيشية.
ولا شك ان لبنان لا تنقصه الموارد المائية بقدر ما تنقصه الإدارة الرشيدة والإرادة السياسية لتطبيق الإصلاح. فالمعادلة بسيطة: تحديث البنى التحتية، تفعيل الرقابة، الاستثمار في معالجة المياه وإعادة استخدامها، وتحرير القطاع من قبضة الفساد والمحسوبيات. لكن هذه الخطوات تبقى حبراً على ورق ما لم تتوافر رؤية وطنية تتعامل مع المياه كحق عام لا كسلعةٍ تخضع لقانون العرض والطلب.
نخلص لنقول: ان لبنان الذي لطالما تغنّى بوفرة مياهه سيكون أمام مشكلة مؤلمة ما لم تُتَّخذ إجراءات عاجلة وجذرية، فإن أزمة العطش مرشحة للتحوّل إلى أزمة وجودية. فهل من المسؤولين من يسمع؟

