
مع بداية كل موسم شتوي، تكاد بيروت والضواحي تتحوّل إلى مسرح مفتوح للفوضى المائية. أمطار ساعات قليلة تكفي لشلّ الحركة في العاصمة، فتطفو الشوارع وتختنق الطرقات وتتعطّل حياة الناس، وكأن المدينة تُفاجأ للمرة الألف بأن الشتاء يأتي في موعده. المشهد نفسه يتكرّر في اكثر من منطقة: سيارات محاصرة، أحياء تتحوّل إلى برك، بُنى تحتية تفضح هشاشتها، وصرخات مواطنين لم يعد يطالهم الغضب بقدر ما يطالهم اليأس.
الأسئلة التي تُطرح بديهيّة، لكنّ بديهيّتها لا تقلّل من حدّتها: أين البلديات؟ أين وزارة الأشغال؟ ومن المسؤول عن تحويل العاصمة والضواحي إلى “مجرى مائي” عند أول غيمة؟
ما يحصل لا يرتبط بقوّة العواصف بقدر ما يرتبط بتراكم سنوات من الإهمال، شبكات الصرف الصحي المتهالكة، الحفر غير المنسّقة، التعدّيات على المجاري الطبيعية، وانعدام الصيانة الدورية قبل الشتاء، كلها عناصر تسبب الغرق. المشكلة ليست مفاجِئة ولا مستجدّة، بل هي نتيجة إدارة موسمية لشؤون يفترض أن تكون مستمرّة ومبنية على رؤية طويلة الأمد.
بلديات العاصمة غالباً ما تكتفي بإصدار بيانات توضيحية أو تبادل الاتهامات حول المسؤولية، فيما تغيب خطط الطوارئ الحقيقية التي تسبق العواصف. أمّا وزارة الأشغال، فتتحرّك غالباً بعد وقوع الكارثة، فيستيقظ الرأي العام على مشاهد الحفارات والشاحنات تعمل على فتح المجاري بدل أن تكون قد نُظِّفت مسبقاً.
إن إحدى العِلل المزمنة تكمن في تشتّت الصلاحيات بين البلديات والوزارات والمؤسسات المختلفة. كل جهة تُلقي باللوم على الأخرى، فيما المواطن هو الحلقة الأضعف في سلسلة لا تحتكم إلى إدارة موحّدة ولا إلى رقابة واضحة. غياب التنسيق والمتابعة يحوّل أبسط الإجراءات، كتنظيف مجرى أو صيانة شبكة، إلى مهمّة شاقة تتقاذفها المكاتب العامة.
إلى ذلك، يتداخل العامل السياسي مع الإداري، فتتوقّف المشاريع أو تُجمّد بسبب الخلافات، ويُترك المجال لمقاربات ترميمية لا تُعالج أصل المشكلة. في المحصّلة، يدفع سكان بيروت ثمن بنية تحتية تُشبه وضع البلاد: مُهترئة، مجزّأة، تعمل بردّات الفعل.
إن العاصمة التي تواجه أزمات الكهرباء والمياه والنقل والنفايات، تُضاف إلى معاناتها أزمة “تدفّق الأمطار”، وهي أزمة لا تتطلّب معجزات لحلّها، بل تتطلّب إرادة إدارية ورقابة ومساءلة. الإصلاح يبدأ من وضع خطة متكاملة للبنى التحتية، تشمل تحديث الشبكات، ومنع التعدّيات، وتنفيذ صيانة استباقية قبل موسم الشتاء بدلاً من التدخّلات المتأخّرة.
كما أن إشراك المجتمع المحلي والقطاع الخاص في مبادرات رقابية وتنفيذية قد يقدّم حلولاً أكثر فعالية من انتظار الدولة المنهكة بمواردها وأولوياتها المتشابكة.
نختم بالقول: بيروت والضواحي لا تغرق من شدّة المطر، بل من شدّة الإهمال. ما دامت الجهات المسؤولة تتعامل مع موسم الشتاء كطارئ سنوي لا كاستحقاق إداري، سيبقى المشهد يتكرّر. المطلوب ليس البحث عن الأعذار، بل عن خطة عمل واضحة، ومحاسبة شفافة، وإرادة تضع سلامة الناس فوق الحسابات. عندها فقط يمكن للعاصمة أن تستقبل الشتاء كفصل طبيعي، لا ككارثة متوقّعة.

