
في خضم التصعيد المتزايد بين لبنان وإسرائيل، والتهويل بعودة الحرب، تعود الولايات المتحدة لتتصدر المشهد السياسي والدبلوماسي في المنطقة، مقدِّمةً نفسها كـ«وسيط» يسعى إلى احتواء التوتر ومنع انزلاق الأمور إلى حرب شاملة. غير أن مراقبة دقيقة لمجمل التحركات الأميركية تكشف بوضوح أن هذا الدور الوسيط ليس سوى واجهة لانحياز استراتيجي راسخ لإسرائيل، يتجلّى في السياسة والموقف والدعم اللامحدود عسكريًا.
فاللّهجة الأميركية اليوم هي بين التحذير والضغط، إذ تدعو واشنطن الحكومة اللبنانية إلى سحب سلاح “حزب الله” وحصره بالدولة، وتفادي الانجرار إلى الحرب، لكنها في المقابل تتغاضى عن الخروقات الإسرائيلية المتكرّرة للسيادة اللبنانية، وتبرّر الضربات التي تستهدف الأراضي اللبنانية بذريعة منع الحزب من إعادة بناء قدراته. هذه الازدواجية تُضعف صدقية الدور الأميركي كوسيط نزيه، وتكشف عن أولوية المصالح الإسرائيلية في حسابات البيت الأبيض.
في المرحلة الحالية، تبدو الإدارة الأميركية منشغلة بأمرين أساسيين: ضمان أمن إسرائيل، ومنع توسّع دائرة المواجهة مع لبنان. ومن هذا المنطلق، يندرج الحراك الدبلوماسي المكثّف الذي يقوده الموفد الأميركي توم برّاك، الذي سيزور بيروت اليوم، ومعه مورغان أورتاغوس التي زارت المسؤولين اللبنانيين أمس بعد أن كانت قد زارت تل أبيب. إلا أن هذا الحراك لا يستند إلى مقاربة متوازنة، بل إلى محاولة فرض “ترتيبات أمنية” من خلال تفاوض مباشر أو غير مباشر في الجنوب اللبناني تضمن لإسرائيل هدوءًا طويل الأمد على حساب السيادة اللبنانية.
إن واشنطن تسعى إلى تسويق صيغة جديدة للقرار “1701”، مقابل وعود مبهمة بتهدئة إسرائيلية. لكن هذه الصيغة لا تراعي المعادلات الداخلية اللبنانية.
لقد بات من المعلوم أن الاستقرار الذي تنشده الولايات المتحدة في لبنان ليس استقرارًا نابعًا من توازن الحقوق والمصالح، بل استقرارًا يخدم أمن إسرائيل ويضمن استمرار نفوذ واشنطن في الإقليم. غير أن هذا النوع من الاستقرار ثبت تاريخيًا أنه هشّ وقابل للانفجار عند أول اختبار. فلبنان، بتعقيداته الداخلية وحساسيته تجاه أي تدخل خارجي، لا يمكن إخضاعه لمنطق الإملاءات.
في ضوء ما تقدّم، يتضح أن واشنطن لم تتخلَّ عن انحيازها التاريخي لإسرائيل، بل أعادت تأطيره ضمن خطاب دبلوماسي يُغلف الانحياز بعبارة “الوساطة”.Attach

