
كتب علي قباجة في صحيفة الخليج.
في السياسة لا مكان للرغائبية، والمصلحة البحتة هي التي تتحكم في المشهد خصوصاً في التعاملات البينية بين الدول الكبرى. الأخلاق مقاييسها مفصلة على حسب فائدة كل طرف، وبما تحققه من غايات، وهذا هو الحاصل حالياً في التدافع السياسي بين أمريكا وروسيا والصين.
وبينما كانت روسيا في عهد الرئيس الأمريكي السابق بايدن دولة «معتدية محتلة لأراضي أوكرانيا ويجب مواجهتها بكل السبل»، وفق واشنطن، التي قدمت دعماً لكييف مادياً وعسكرياً بلا حدود، إلا أن الأمور تغيرت جزئياً في عهد ترامب، الذي اتبع سياسة أكثر تصالحية، وبدا بمشهد «المتحيز» لروسيا أحياناً من خلال ضغطه على الرئيس الأوكراني زيلينسكي لتقديم تنازلات، ثم استخدام أسلوب التهديد مع روسيا بفرض عقوبات صارمة وتنفيذ بعضها، وترغيبها من ناحية أخرى أيضاً لدفعها لطاولة الحوار، بهدف إسكات هذه الجبهة ولو مؤقتاً، لأهداف ليس كما يبديها ترامب، بأنه «يحب إنهاء الحروب»، فأمريكا لا تقوم على حكم الفرد، إذ ثمة دولة عميقة تحدد الاستراتيجيات الدولية وفق المصلحة.
الولايات المتحدة، بالتأكيد لا تثق بروسيا، بل إنها موصومة بإشعال فتيل الحرب، وترامب شخصياً اتهم سلفه بايدن بإذكاء الحروب في أوروبا، وذلك لأهداف كثيرة، منها استنزاف روسيا وتقليص قوتها، ثم دفع أوروبا إلى حظيرة الطاعة الأمريكية، بعدما بدأت تتفلت وتحاول الحفاظ على كينونتها بالاستقلال عن واشنطن عسكرياً واقتصادياً، هذا فضلاً عن أهداف أخرى منها إنعاش سوق السلاح.
لكن الهدف الأمريكي الآن اتجه نحو الصين، وهو التفرغ لصعودها المحموم والفلكي، حيث أصبحت الأخيرة نداً قوياً يحسب له ألف حساب، بل إنها تتفوق على أمريكا في عدة نواحٍ، وتواصل تحديث أسلحتها البرية والبحرية والجوية والنووية، تزامناً مع تصاعد نبرتها باستعادة تايوان عسكرياً أو سلمياً إلى برها، وتهديد النفوذ الأمريكي في المنطقة أولاً وعالمياً ثانياً، بل إن بيانات أظهرت تفوق بكين على واشنطن كأكبر شريك تجاري لبرلين خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2025، والمعروف أن ألمانيا تعد من الدول الحليفة للولايات المتحدة، ما يظهر مدى تمدد الصين عالمياً، وتجاوز أمريكا حتى مع حلفاء الأخيرة.
ترامب استخدم لغة التهديد مع الصين، ملوّحاً برسوم جمركية كبيرة، في حال أقدمت على خطوات «مضرة»، حيث قال: «أستخدم الرسوم الجمركية لتحقيق مصالح الولايات المتحدة»، كما تحث أمريكا الخطى نحو تعميق التعاون العسكري مع الدول المحيطة والقريبة جغرافياً من الصين، بهدف إشغال «التنين» بمحيطه فقط، كي لا يتطلع إلى أبعد من ذلك.
الصين هي الشغل الشاغل لأمريكا مرحلياً، لذا فإنه في سبيل تثبيطها يمكن لواشنطن أن تؤجل معارك أخرى، مع روسيا مثلاً لتحقيق هذه الغاية، لكن من المؤكد أن الصين وروسيا ليستا لقمة سائغة ولن يؤكل لحمهما بسهولة.

