
كتب حسن نافعة في صحيفة العربي الجديد.
تُعدُّ كلمة “الأمن” من أكثر مفردات القاموس السياسي تردّداً واستخداماً في الخطاب الإسرائيلي، إن لم تكن أكثرها على الإطلاق. وذلك ليس بالأمر الطارئ أو المُستحدَث أو الدخيل على الحياة السياسية في إسرائيل، وإنما ظاهرة ممتدّة ومتواصلة تعكس سمةً كامنةً في بنية النظام السياسي الإسرائيلي نفسه منذ إعلان قيام “دولة إسرائيل” في 14 مايو/ أيار 1948. ولأن جميع قرارات السياسات الداخلية والخارجية لهذه “الدولة” ارتبطت دوماً برؤية أمنيةٍ مستمدّةٍ من طبيعة المشروع الصهيوني نفسه، ليس من المستغرب أن يعكس خطابها السياسي الرسمي مفهوماً خاصاً جدّاً للأمن، يختلف بطبيعته عن المفاهيم المُتعارف عليها في حقل العلاقات الدولية، وأن تتسم السياسة الخارجية الإسرائيلية بقدر كبير من الغموض والإبهام، يجعلها تتطلّع إلى الوصول لأهداف تبدو في كثير من الأحيان غير منطقية، وربّما غير قابلة للتحقّق أصلاً. ويعود التباين بين المفهوم الإسرائيلي للأمن والمفاهيم الأخرى المُتعارف عليها في العلاقات الدولية إلى عامل أساس، أن إسرائيل تتحرّك في الساحتين الإقليمية والعالمية ليس بوصفها “دولةً” عادية، شأن بقية الدول، وإنما بوصفها “مشروعاً” لم يكتمل بعد، وما زال في طور التكوين.
للدولة تعريف قانوني مُحدَّد، لا يكتمل إلا بتوافر عناصرَ ثلاثة: شعب وإقليم وسلطة سياسية قادرة على فرض سيادتها داخل حدود جغرافية واضحة المعالم ومُعترَف بها دولياً، وهي عناصر لا تتوافر مجتمعةً في الحالة الإسرائيلية. فالشعب الإسرائيلي لا ينتمي في مجمله إلى سكّان البلاد الأصليين، وإنما جُلِب معظمه من كل بقاع العالم (ولأسباب سياسية) إبان فترة الانتداب البريطاني (1920 – 1948)، بينما شرّد معظم سكّان البلاد الأصليين الذين تحوّلوا لاجئين ترعاهم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، لكنّهم ما زالوا، هم وأبناؤهم، يطالبون بالعودة إلى منازلهم، وهو حقّ تعترف به، وتقرّه، القرارات والقوانين الدولية كافّة. والإقليم الذي يقيم فيه “الشعب الإسرائيلي” ليست له حدود ثابتة، واضحة المعالم ومُعترَف بها، وإنما هي حدود متحرّكة تتوسّع باستمرار. الحدود الوحيدة المُعترَف بها دولياً، في هذا السياق، هي الحدود المُوضَّحة في قرار تقسيم فلسطين (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947)، وهي حدود لدولتَين، واحدة لليهود وأخرى للعرب الفلسطينيين. أمّا الأراضي التي تسيطر عليها “دولة إسرائيل” الآن فهي خارج نطاق الحدود المُوضَّحة في قرار التقسيم، فقد استُولي عليها بالقوة، ومن ثمّ تُعدُّ “أراضيَ محتلّة” من وجهة نظر القانون الدولي. والسلطة السياسية التي تفرض سيادتها هناك تُعبّر عن نظام سياسي يمارس سياسة الفصل والتمييز العنصري ضدّ أصحاب الأرض الأصليين (باعتراف العديد من التقارير الدولية)، ويشنّ حرب إبادة جماعية عليهم (باعتراف محكمة العدل الدولية التي أصدرت أوامر احترازية ملزمة لم تنفّذ)، ويقوده رئيس وزراء مطلوب للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية بصفته مسؤولاً عن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبت في حقّ الفلسطينيين.
أهدرت إسرائيل كلّ فرص السلام منذ الخمسينيّات لسبب وحيد: رفضها العودة إلى حدود 1967
يتضح ممّا تقدّم أننا إزاء إشكالية قانونية وسياسية كبرى، مفادها بأن السلطة السياسية التي تحكم “دولة إسرائيل” الآن لا تعترف بوجود شعب فلسطيني يحق له إقامة دولته المستقلّة، ولو في جزء محدود من أرضه التاريخية، ومنعت هذا الشعب من ممارسة حقّه في تقرير مصيره، وهو حقّ يعترف به ميثاق الأمم المتحدة لشعوب العالم كلّها، بل لا تعترف حتى بأن معظم الأراضي التي تفرض عليها سيادتها هي أراضٍ محتلّةٌ ينبغي الانسحاب منها. الأخطر من ذلك أنها تتحدّث علناً عن عزمها على إقامة “إسرائيل كبرى”، وتشمل (بالإضافة إلى فلسطين التاريخية)، كلّاً من: الأردن ولبنان وسورية وأجزاء من مصر والعراق والسعودية، بل تتطلّع في الوقت نفسه، رغم هذا التوحش كلّه، والإجرام، إلى توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية كي تشمل باقي دول الخليج العربي، بما في ذلك السعودية. ولأن نتنياهو يبدو واثقاً تماماً من أن انضمام السعودية إلى حظيرة الاتفاقات الإبراهيمية سيؤدّي تلقائياً إلى تطبيع علاقاتها مع العديد من الدول الإسلامية غير العربية، مثل ماليزيا وباكستان وأفغانستان (أُعلن انضمام كازاخستان أخيراً)، فقد أصبح على يقين من أن المشروع الصهيوني أصبح قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال.
بوسع كل متأمل منصف لمسيرة الصراع العربي الإسرائيلي أن يدرك يقيناً أن الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية تقوم على ركيزتَين أساسيتَين، تستهدف الأولى تحقيق تفوّق عسكري نوعي، بشقيه التقليدي والنووي، ما يعني التفوق على كل الدول العربية مجتمعة في مجال الأسلحة التقليدية (لضمان النصر في أيّ حروب نظامية)، واحتكار السلاح النووي في المنطقة (لضمان الردع على المستوى الاستراتيجي في المنطقة). وتستهدف الركيزة الثانية تفتيت الدول الكبرى في المنطقة، بالعمل على تحويلها دويلات تُقام على أسس عرقية وطائفية وقبلية عبر التعاون الدائم مع الأقليات. تبنّي هذه الاستراتيجية يدل بوضوح على أن إسرائيل لم تكلّف نفسها أبداً عناء البحث عن الركيزة الأهم لتحقيق الأمن بمعناه الحقيقي والدائم، ألا وهي التوصّل إلى صيغة تؤدّي إلى تحقيق التعايش السلمي مع شعوب الدول المجاورة، وإلى التعاون البنّاء مع جميع دول المنطقة، وفضّلت تبنّي استراتيجية بديلة تقوم على الهيمنة وسيلةً لتحقيق الأمن، ما يفسّر لماذا أصرّت على إهدار الفرص التي أتيحت أمامها لتحقيق السلام في المنطقة، وفضّلت التوسّع وضمّ أراضي الغير بالقوة على التهدئة والبحث عن تسوية سلمية ودائمة للصراع.
أتيحت أمام إسرائيل فرص عديدة لتحقيق السلام منذ الخمسينيّات عندما سعت الولايات المتحدة للوساطة بين مصر وإسرائيل. فمن الثابت أن جمال عبد الناصر كان مستعدّاً لتحويل اتفاقات الهدنة الموقّعة مع الدول العربية المجاورة عام 1949 اتفاقات سلام، غير أن إسرائيل أهدرت هذه الفرصة، لأنها رفضت الانسحاب إلى الحدود المرسومة في قرار التقسيم، كما رفضت تنفيذ القرار الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين أو تعويضهم. ثمّ أتيحت أمامها فرصة ثانية خلال السبعينيّات، وبالذات في مؤتمر كامب ديفيد لعام 1978، على الرغم من أن مصر لم تشترط في ذلك الوقت العودة إلى حدود 1947 واكتفت بالمطالبة بحدود 1967، لكنّها رُفضتْ أيضاً. ثمّ تكرّرت الفرص بعد ذلك: عند انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991، وعقب إبرام اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، وعقب تبنّي العالم العربي مبدأ “الأرض مقابل السلام” في قمة بيروت عام 2002. لكن إسرائيل أهدرت جميع هذه الفرص، وذلك لسبب وحيد وهو أنها ترفض العودة إلى حدود 1967، ولا تزال ترفض ذلك.
تلوح اليوم فرصةٌ جديدةٌ لتحقيق السلام في المنطقة، ولكن في سياق مختلف تماماً عن كل الفرص السابقة. فلأول مرّة في تاريخ الصراع يتقدّم رئيس أميركي بخطّة للسلام تحمل اسمه. صحيح أنها لا تنصّ صراحة على قيام دولة فلسطينية مستقلة، وأن هدفها المباشر هو وقف الحرب في غزّة، وليس تحقيق السلام الشامل في المنطقة. غير أن ترامب صرّح علناً بأن خطّته ستؤدّي إلى “حلّ صراع عمره ثلاثة آلاف عام”. ولأنه يصعب تصوّر أن تنتهي الحرب الراهنة بالطريقة نفسها التي انتهت بها حروب غزّة السابقة، أي بالتوصل إلى هدنة مؤقّتة تمهّد لحرب جديدة، لم يعد أمام المنطقة سوى الاختيار بين الحرب المستمرّة أو السلام الدائم. فالحرب التي اندلعت عقب “طوفان الأقصى” لا تشبه أيّاً من الحروب السابقة في المنطقة، وبالتالي على الجميع استخلاص الدروس الصحيحة، فإمّا أن يتحقّق سلام شامل ودائم أو تبقى المنطقة كلّها في حالة من عدم الاستقرار، ما يعني أن المنطقة وصلت إلى مفترق طرق وإلى نقطة الحسم، بسلام دائم يحقق الأمن والاستقرار للجميع، أو فوضى شاملة ومستمرّة لن يستفيد منها أحد.
يتطلب السلام الحقيقي أن تغيّر إسرائيل استراتيجيتها الأمنية، وأن تقتنع بأن أمنها لن يتحقّق عبر التفوّق العسكري واحتكار السلاح النووي
لا تتوافر مؤشّرات تكفي لاستنتاج أن خطّة ترامب ستؤدّي إلى سلام دائم في المنطقة. فبعدما استعاد جميع المحتجزين الأسرى الإسرائيليين الأحياء، شرع نتنياهو على الفور في استغلال موضوع استعادة جميع الجثث ذريعةً لاستئناف الحرب. ورغم عدم وجود سبب واحد يدعو إلى الاعتقاد بأن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تتعمّد عدم تسليم هذه الجثث، فلا مصلحة لها في ذلك بعدما سلمت جميع الأحياء، أقدم نتنياهو على انتهاك وقف إطلاق النار مرّات، فشنّ جيشه غارات قتل فيها أكثر من 200 شخص وجرح الآلاف، ورفض إدخال 75% من قوافل المساعدات الإنسانية المُتّفَق عليها، ما يوحي بأنه يمهِّد لاستئناف الحرب من جديد. ولأنه يعتقد أنه بات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق “النصر المطلق”، فالأرجح أن يستأنف نتنياهو الحرب ما لم يتمكن ترامب من ردعه. وحتى إذا تمكن الأخير من إنقاذ اتفاق وقف إطلاق النار وإطالة أمده بعض الوقت، فلن يستطيع، في ظلّ الحكومة الإسرائيلية الحالية، فتح طريق يفضي إلى سلام حقيقي في المنطقة. فالسلام الحقيقي يتطلّب أولاً، وقبل كل شيء، أن تغيّر إسرائيل استراتيجيتها الأمنية، بأن تقتنع بأن أمنها لن يتحقّق عبر التفوّق العسكري، أو احتكار السلاح النووي أو تفتيت دول المنطقة إلى كياناتٍ طائفية أو دينية أو عرقية أو قَبَلية، وإنما عبر قبول الشعوب العربية أن تتعايش معها سلمياً، وهو ما يستحيل أن يتحقّق إلا بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، وبتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقّه في تقرير مصيره، وبإخلاء المنطقة من جميع أسلحة الدمار الشامل.

