كتبت بينة الملحم في صحيفة الرياض.
حين تبني المملكة مراكز حوسبة ضخمة وتطوّر قدرات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، فهي تبني استقلالها التقني وتحمي أمنها المعلوماتي، وتضع نفسها في مصاف الدول التي تملك قرارها الرقمي بالكامل.. في زمنٍ أصبحت فيه البيانات أغلى من النفط، والذكاء الاصطناعي أقوى من الجيوش، فإن امتلاك هذه الأدوات يعني امتلاك مفاتيح المستقبل..
في تقرير حديث لصحيفة نيويورك تايمز، وصفت المملكة العربية السعودية بأنها تسير بثبات لتصبح ثالث أكبر مزوّد لقوة الحوسبة في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. هذا التوصيف، القادم من واحدة من أكثر المؤسسات الإعلامية تأثيراً في الغرب، لا يمكن أن يُقرأ على أنه مجرد إشادة، بل هو اعترافٌ عالمي بتحول استراتيجي عميق، يصوغ ملامح مرحلة جديدة في تاريخنا الوطني: مرحلة ما بعد النفط، أو بتعبير أدق، مرحلة الذكاء السعودي.
لقد أدركت المملكة، مبكراً، أن الثورة التقنية ليست ترفاً ولا خياراً ثانوياً، بل هي ميدان القوة القادم، ومصدر النفوذ الحقيقي في القرن الحادي والعشرين. ومن هنا، لم يكن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية ومراكز البيانات الكبرى مجرد مشروع اقتصادي، بل رؤية وجودية تمسّ مستقبل الدولة ودورها في العالم. فكما كانت السعودية مركز الطاقة العالمية في القرن الماضي، فهي تتجه اليوم لتكون مركز الطاقة الرقمية في القرن الحالي.
حين يتحدث الإعلام الغربي عن السعودية اليوم، فإنه لا يتحدث عن النفط ولا عن الأسعار ولا حتى عن أوبك؛ بل عن الذكاءالاصطناعي، والروبوتات، ومراكز البيانات العملاقة في نيوم، ومبادرات التعليم الرقمي، وشركات التقنية المحلية الصاعدة. هذا التحول في اللغة وحده كافٍ ليدرك المراقب حجم التغير الذي أحدثته رؤية 2030، التي وضعت التقنية في صميم مشروعها الوطني.
إن التحوّل من الاعتماد على النفط إلى بناء اقتصاد معرفي متكامل ليس بالأمر البسيط، لكنه بالنسبة للسعودية ليس حلماً بعيد المنال، بل مسار يُبنى لبنةً لبنة. خذ مثلاً مشروع “سحابة نيوم” أو المدن الذكية في “ذا لاين”، أو شراكات السعودية مع كبرى شركات التقنية في العالم مثل “إنفيديا” و”غوغل” و”هواوي”، كلها تشير إلى أن المملكة لا تستهلك التقنية فحسب، بل تُعيد تعريفها وتوطينها وتنتجها بطريقتها الخاصة.
اللافت أن هذا التقدم لا يتم في فراغ، بل يأتي ضمن بيئة متكاملة تصنعها الدولة، حيث تعمل الجامعات السعودية على تخريج كوادر في علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي، وتُبنى حاضنات الابتكار والمسرّعات في الرياض وجدة والظهران، وتُمنح الشركات الناشئة فرصاً حقيقية للمنافسة على مستوى عالمي. إنها منظومة تتحرك بانسجام: من السياسة إلى الاقتصاد، ومن التعليم إلى الصناعة.
لكن الأهم من ذلك كله، أن التحول الرقمي السعودي ليس مجرد سعي لتقليد الآخرين، بل مشروع سيادي بامتياز. فحين تبني المملكة مراكز حوسبة ضخمة وتطوّر قدرات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، فهي تبني استقلالها التقني وتحمي أمنها المعلوماتي، وتضع نفسها في مصاف الدول التي تملك قرارها الرقمي بالكامل. في زمنٍ أصبحت فيه البيانات أغلى من النفط، والذكاء الاصطناعي أقوى من الجيوش، فإن امتلاك هذه الأدوات يعني امتلاك مفاتيح المستقبل.
في عمق هذا التحول، يمكن أن نلمح الفلسفة التي تقف وراء رؤية 2030؛ فلسفة تقوم على تحويل التحديات إلى فرص، والموقع الجغرافي إلى ميزة استراتيجية، والموارد البشرية إلى طاقة إبداعية. إنها الرؤية التي لا تكتفي أن تتنبأ بالمستقبل، بل تصنعه.
ولعل أجمل ما في هذا التحول أنه يجري من دون ضجيج. فبينما تنشغل بعض الدول بالشعارات، تعمل السعودية على الأرض: تُشيّد، وتُدرّب، وتستثمر، وتستعد لعصر جديد بكل هدوء وثقة. لذلك لم يكن غريباً أن تعترف نيويورك تايمز، وغيرها من كبريات الصحف العالمية، أن المملكة تمثل اليوم “الوجه الجديد للثورة التقنية”. اعترافٌ لا يُشترى بالإعلانات، بل يُنتزع بالإنجاز.
ولأن التقنية ليست مجرد أدوات، بل ثقافة ونمط تفكير، فإن التحول الحقيقي الذي نعيشه هو تحول الوعي. وعيٌ جمعي يتكوّن في جيل سعودي جديد يرى في البرمجة والروبوتات والابتكار طريقاً للمجد، تماماً كما رآه آباؤه في النفط والبناء والتجارة. هذا الجيل هو الذي سيكمل المسيرة، وهو الوقود الحقيقي لعصر الذكاء السعودي.
ربما كانت نيويورك تايمز محقّة حين قالت إن السعودية تمضي بثبات نحو قيادة الثورة التقنية، لكن ما لم تدركه تماماً هو أن هذه الثورة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق رؤية أعمق: أن تكون السعودية رقماً صعباً في معادلة المستقبل، وصوتاً مسموعاً في حوار الإنسانية حول التقنية والأخلاق والتنمية.
إننا لا نغادر عصر النفط، بل نفتح بوابة عصر جديد، تُكتب فيه معادلات القوة بلغة البيانات والخوارزميات.. والسعودية، كما كانت دائماً وستبقى، لا تنتظر المستقبل، بل تكتبه بيديها!

