
حسين زلغوط, خاص – “رأي سياسي”:

لم يكن ما شهده مخيم شاتيلا في بيروت خلال الأيام الماضية مجرد حادثٍ أمنيٍّ عابر، بل جرسَ إنذارٍ جديداً يذكّر بأنّ واقع المخيمات الفلسطينية في لبنان يزداد هشاشةً وتعقيداً يوماً بعد يوم. فمشاهد القتل والاشتباكات، وصولاً إلى كشف مستودعاتٍ للمخدرات وتفكيك شبكاتِ ترويجٍ داخل منطقةٍ يُفترض أن تكون ملاذاً آمناً للاجئين، أعادت إلى الواجهة سؤالاً مؤجلاً منذ عقود: إلى متى يبقى ملفّ المخيمات الفلسطينية مغلقاً تحت عنوان “الخصوصية الأمنية”؟
مخيم شاتيلا، الذي يحمل في ذاكرته الجماعية واحدةً من أبشع المآسي في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي (مجزرة صبرا وشاتيلا)، يتحوّل اليوم إلى مرآةٍ تعكس حجم التداخل بين البؤس الاجتماعي والفوضى الأمنية. فالمخيم الذي تأسّس لاستيعاب موجات اللجوء الأولى، أصبح اليوم مساحةً خارجةً نسبياً عن سلطة الدولة، يتنازعه الفقر والتهميش من جهة، وشبكات السلاح والمخدرات من جهةٍ أخرى. وفي ظلّ غياب خطةٍ واضحةٍ للتنمية أو الرقابة، تحوّلت بعض المخيمات إلى بيئاتٍ خصبةٍ لتفشّي العصابات وتجار المخدرات والمتعاطين.
الأخطر في المشهد أنّ ما يجري في شاتيلا ليس استثناءً، بل امتدادٌ لحالةٍ عامة تشمل معظم المخيمات الفلسطينية في لبنان. فغياب التنسيق الفعلي بين الفصائل الفلسطينية والأجهزة اللبنانية خلق فراغاً أمنياً متنامياً، سمح بتمدّد الجماعات الخارجة عن القانون، وبروز تجار السلاح والمخدرات كقوى أمرٍ واقع. ومع الانهيار الاقتصادي الذي يضرب لبنان منذ سنوات، ازدادت معدلات البطالة والفقر داخل المخيمات، ما جعل شريحةً واسعةً من الشباب عرضةً للاستقطاب أو الانخراط في أنشطةٍ غير مشروعة.
إنّ اكتشاف مستودعاتٍ للمخدرات داخل شاتيلا لا يفضح فقط وجود شبكاتٍ إجراميةٍ منظّمة، بل يكشف أيضاً عن تصدّع المنظومة الأمنية والسياسية التي لطالما تعاملت مع المخيمات بمنطق “الإدارة عن بُعد”. فغياب الرقابة الفعلية وتداخل الأجندات الإقليمية جعلا من هذه المساحات مناطق رمادية تُستغل لتصفية الحسابات أو تمرير الأنشطة غير الشرعية، بعيداً عن أعين الدولة اللبنانية.
ورغم تعقيد المشهد، تبقى إعادة فتح ملفّ المخيمات الفلسطينية ضرورةً وطنيةً وأمنيةً وإنسانيةً في آنٍ واحد. فالمطلوب اليوم ليس معالجةً أمنيةً ظرفية أو حملةَ مداهماتٍ مؤقتة، بل مقاربةً شاملة تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة اللبنانية والمخيمات على قاعدة الحقوق والواجبات. فتمكين اللاجئين من حياةٍ كريمةٍ، ومن فرصِ عملٍ وتعليمٍ، يشكّل شرطاً أساسياً لاستقرار المخيمات واندماجها الإيجابي مع محيطها. كما أنّ التنسيق الأمني المنظّم بين الدولة والفصائل هو السبيل الوحيد لضبط الفوضى ومنع تكرار أحداثٍ دمويةٍ كتلك التي شهدها شاتيلا.
إنّ ما حدث مؤخراً يجب أن يُقرأ كتحذيرٍ من مستقبلٍ قاتمٍ إن استمرّ الإهمال. فترك المخيمات نهباً للفقر والفوضى يعني ببساطة تركَ قنبلةٍ اجتماعيةٍ قابلةٍ للانفجار في أيّ لحظة، لا تهدّد سكانها وحدهم، بل الأمن اللبناني برمّته. وعلى المجتمع الدولي أيضاً مسؤوليةٌ مضاعفة، ليس فقط في دعم اللاجئين إنسانياً، بل في الدفع نحو حلولٍ سياسيةٍ عادلةٍ تضع حدّاً لمعاناتهم الطويلة.
قد تكون مأساة شاتيلا الأخيرة فرصةً لإطلاق حوارٍ وطنيٍّ جدّيٍّ بين الدولة اللبنانية والفصائل الفلسطينية، لإعادة ترتيب هذا الملفّ بروحٍ من الواقعية والتعاون. فاستمرار النهج القائم على التغاضي أو المعالجة الموسمية لن يؤدّي إلا إلى مزيدٍ من التدهور. ويبقى السؤال المُلحّ: هل تكون دماء الضحايا في شاتيلا بدايةَ وعيٍ جديدٍ يدفع نحو مقاربةٍ مختلفة، أم حلقةً جديدةً في مسلسل التجاهل المزمن الذي يدفع المخيمات أكثر فأكثر نحو المجهول؟

