
حسين زلغوط
خاص- موقع “رأي سياسي”:

تتصدًر عناوين الفساد النقاشات العامة والخطابات السياسية في لبنان منذ عقود الى الآن، ويبدو أن الحديث عن مكافحة الفساد والهدر بات “ضرورة لفظية” أكثر منه التزامًا فعليًا.
يتكرر الخطاب ذاته على لسان معظم السياسيين اللبنانيين: “نحن ضد الفساد”، “يجب محاسبة الفاسدين”، “لا تنمية في ظل الهدر”، لكن خلف هذه العبارات، واقعٌ مرير يعكس أن غالبية من يتحدثون عن الفساد هم أنفسهم متورطون مباشرة أو عبر غطاء سياسي في تكريس منظومة قائمة على المحاصصة، والزبائنية، وسوء الإدارة.
فمنذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، شكّلت إعادة إعمار الدولة وتوزيع المناصب والمؤسسات مناسبة لإرساء منظومة فساد ممنهجة، حيث تقاسمت الأحزاب والطوائف الدولة كغنيمة، فجاء التوظيف السياسي ليغلب على الكفاءة، وتحوّلت الوزارات والمؤسسات العامة إلى أدوات تمويل سياسي وشخصي.
وفق تقارير منظمات دولية، من بينها البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية، يخسر لبنان سنويًا مليارات الدولارات نتيجة الهدر في مؤسسات الدولة، والمناقصات غير الشفافة، والتهرب الجمركي والضريبي، ناهيك عن الفساد القضائي والإداري، والمفارقة أن الطبقة السياسية التي تهيمن على المشهد منذ عقود هي نفسها التي تتحدث باستمرار عن الفساد، وكأنها خارجه، بحيث يلجأ معظم الزعماء إلى خطاب هجومي على “الفساد” حين يريدون تبرير فشل، أو صرف الأنظار عن ملف شائك، أو تصفية حسابات مع خصوم سياسيين.
وقد تحول خطاب “محاربة الفساد” إلى أداة سياسية، لا وسيلة إصلاح، فكل فريق يتهم الآخر بالفساد، بينما لا تحرّك أجهزة الرقابة ساكنًا، وغالبًا ما تُجهض أي محاولات جدية للمساءلة بفعل الحصانات السياسية والطائفية.
والسؤال أين القضاء؟ وأين المحاسبة؟
في دول العالم التي تشهد حالات فساد، تلعب السلطة القضائية المستقلة دورًا محوريًا في كشف الحقائق ومحاسبة المتورطين، أما في لبنان، فالقضاء إما مسيّس، أو مكبّل، أو خائف من الاصطدام بـ”الخطوط الحمراء” للطوائف.
وقد برز ذلك بوضوح في ملفات كبرى، أبرزها تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، حيث تعرقلت التحقيقات تحت ضغط سياسي هائل، كما حصل في ملف تهريب المحروقات، والأدوية، والقمح، واموال المودعين، وغيرها من الملفات التي طُويت بدون محاسبة حقيقية.
وسط هذه المنظومة، يبقى المواطن اللبناني هو الخاسر الأول، فقد انهارت الخدمات العامة، وانهارت الليرة، وتبخّرت مدخرات الناس في المصارف، وتراجعت قطاعات التعليم والصحة، وكل ذلك نتيجة عقود من الفساد والهدر وسوء الإدارة.
ويشعر اللبنانيون، بشكل متزايد، أن لا جدوى من التغيير في ظل نظام سياسي طائفي يعيد إنتاج نفسه بعد كل أزمة. فحتى الانتخابات، التي يُفترض أن تكون أداة مساءلة شعبية، غالبًا ما تُدار بمنطق الزبائنية والولاءات الضيقة، لا المصلحة العامة.
في ضوء الانهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق، تبدو الحاجة إلى إعادة هيكلة النظام السياسي والمؤسسات الرقابية أمرًا حتميًا، لكن أي إصلاح حقيقي لا يمكن أن يتم دون مساءلة، ودون تحرير القضاء من الهيمنة السياسية، ودون تحريك المجتمع المدني والرأي العام للمطالبة بحقوقه.
حتى ذلك الحين، سيبقى السياسيون في لبنان يتحدثون عن الفساد… فيما يُمارَس هذا الفساد أمام أعين الجميع.