
حسين زلغوط
خاص_ موقع “رأي سياسي”:

في خطوة تحمل دلالات أمنية وسياسية بالغة، يستعد الجيش اللبناني لاطلاق المرحلة الأولى من خطته الأمنية الجديدة، التي تهدف إلى إعادة ضبط المشهد العسكري في الجنوب اللبناني، وتثبيت سيادة الدولة فوق كامل أراضيها، بدءًا من المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني، حيث طالما شكلت ساحة حساسة تتقاطع فيها التوازنات الداخلية والتجاذبات الإقليمية.
اللافت في هذه الخطة أنها لا تأتي كرد فعل على تطور أمني طارئ، بل بوصفها رؤية متكاملة وممنهجة تسعى لإعادة التموضع الأمني للدولة اللبنانية، من خلال إجراءين أساسيين: الأول، حصر السلاح في يد الجيش اللبناني ضمن النطاق الجغرافي جنوب الليطاني وصولا الى باقي المناطق اللبنانية، والثاني، نشر وحدات عسكرية بشكل منظم ومدروس في نقاط استراتيجية، بما يعيد التوازن إلى منطقة لطالما كانت تشكل مادة تجاذب داخليا وخارجيا.
المرحلة الأولى من الخطة تبدو مدروسة في توقيتها ومضمونها، إذ اختار الجيش أن يبدأ من الجنوب، ليس فقط لأهميته العسكرية، بل لما يمثله من رمزية وطنية وتاريخية. فجنوب الليطاني، الذي لطالما خضع لواقع أمني خاص، تحوّل بعد الحرب الأخيرة إلى نقطة محورية لدى الداخل اللبناني وعلى المستويين الاقليمي والدولي.
الانتشار العسكري المرتقب، والذي من المزمع أن يشمل مفارز ونقاط تفتيش ونقل وحدات قتالية إلى المناطق المستهدفة، لا يحمل فقط وظيفة أمنية ظرفية، بل يسعى إلى ترسيخ حضور الدولة، والأهم من التنفيذ الميداني، هو الرسالة السياسية الكامنة في هذه الخطة. فالجيش اللبناني، بطرحه هذا التصور، يعلن بوضوح أن الأمن في الجنوب لم يعد ملفًا يخضع للمساومات، بل إن الحفاظ على الاستقرار، ومنع الانزلاق إلى صدامات مفتوحة أو مواجهات محدودة، يبدأ من الإمساك الحقيقي بالأرض، لا من خلال التوازنات أو الاتفاقات الضمنية.
في عمق هذه الخطوة أيضًا، تظهر محاولة جدية لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها في الجنوب. فهناك شعور متنامٍ لدى فئات واسعة من السكان بأنهم متروكون لمصيرهم، بين تهديدات خارجية وتجاذبات داخلية. وقد يكون الانتشار العسكري المدروس مقدّمة لإعادة بناء تلك الثقة، شريطة أن يُقابل هذا التحرك العسكري بخطاب سياسي موحّد ودعم مؤسساتي واضح.
ليس من السهل بالطبع تنفيذ هذه الخطة في بيئة متشابكة، حيث تتداخل الحسابات الإقليمية مع الحسابات الطائفية، وتخضع الأرض لمنطق التوازنات الدقيقة. لكن ما هو واضح أن الجيش اللبناني قرر أن يبادر، وأن يخرج من دور “الردّ” إلى موقع “المبادرة”، في لحظة حساسة يمرّ بها البلد على المستويين الداخلي والخارجي.
ما ينتظر الجيش في المرحلة المقبلة ليس مهمة تقنية فحسب، بل اختبار شامل لقدرة الدولة على استعادة دورها، وعلى فرض معادلة الأمن الرسمي في وجه أي عدوان اسرائيلي في المستقبل. فإمساك الجنوب هو إمساك لمفتاح الاستقرار اللبناني، ومتى ما ثبتت قدم الدولة هناك، يكون الطريق ممهّداً لاستعادتها في أماكن أخرى، ومن جانب آخر يضع المصداقية الدولية على المحك.
لا شك إنها بداية مرحلة جديدة، قد تكون محفوفة بالمخاطر، لكنها أيضًا فرصة حقيقية لإعادة بناء الدولة من الأساس، على قاعدة القانون لا التوازنات، وعلى سلطة الجيش في مواجهة عدو اسرائيلي متغطرس.