حسين زلغوط,

خاص – “رأي سياسي”:
بين الظل والضوء، تُرسم ملامح جديدة للشرق الأوسط، لا بالخطابات ولا بالقمم، بل عبر وقائع ميدانية، وتحوّلات جيوسياسية كبرى، واتفاقات سرّية وأخرى مُعلنة. مشهد يتجاوز حدود التحليل التقليدي، ويشير بوضوح إلى أن المنطقة مُقبلة على تغييرات جذرية، ليس فقط في موازين القوى، بل ربما في طبيعة الكيانات وحدودها نفسها.
فهل نحن بصدد “سايكس–بيكو” جديدة تُطبخ بهدوء؟ أم أن ما يجري ليس أكثر من ارتدادات عشوائية لصراعات متراكمة؟
لم تَعُد الحدود الموروثة بعد الاستعمار، من سوريا إلى العراق، ومن اليمن إلى السودان، تعني الكثير على المستوى الفعلي. الواقع الميداني يكشف عن تقسيمات واضحة، تُدار فيها مناطق شاسعة من قبل قوى غير حكومية، أو جماعات مذهبية، وسط دعم خارجي معلن أو ضمني.
في العراق، يتقاسم النفوذ كلٌّ من الحكومة المركزية، وإقليم كردستان، وفصائل مسلّحة مدعومة من الخارج. أما في سوريا، فتبدو الخريطة موزّعة فعليًّا بين “نظام الشرع”، وقوات سوريا الديمقراطية، والمعارضة المدعومة تركيًّا، فضلًا عن النفوذ التركي والأميركي المتداخل.
وفي اليمن، بات الحديث عن “شمال حوثي وجنوب انتقالي” واقعًا شبه معترف به، رغم محاولات الحفاظ على وحدة شكلية. أما ليبيا، فلا تزال مُقسّمة بين حكومتين وميليشيات، في ظل تدخلات خارجية واسعة.
ومن نافل القول إنه دخلت على خطّ تقسيم المنطقة أطراف جديدة؛ فالولايات المتحدة تحتفظ بوجود استراتيجي وسياسي مؤثّر على مساحة واسعة من الشرق الأوسط، فيما روسيا التي انتفى وجودها العسكري في سوريا، تناور سياسيًّا في ملفات أخرى. أمّا الصين، فهي تدخل من باب الاستثمار والدبلوماسية، مستفيدةً من تراجع الغرب، فيما تركيا وإيران تعملان على توسيع نفوذهما عبر دعم قوى محلية وتدخّلات مباشرة. وتبقى إسرائيل، التي تستثمر في ما تعتبره انتصارًا لها في لبنان وغزة وصولًا إلى سوريا، فتحاول تكريس واقعٍ يخدم أمنها ومصالحها، وصولًا إلى “إسرائيل الكبرى”.
في هذا السياق، تقول مصادر سياسية مطّلعة إن السيناريوهات المطروحة لرسم خرائط الشرق الأوسط الجديد لا تخرج عن أربعة مسارات محتملة:
أولًا – تقسيم فعلي دون اعتراف دولي، كما يحدث الآن في سوريا والعراق واليمن.
ثانيًا – الفدرلة كحلّ سياسي، خاصةً في الدول التي تشهد تعددًا مذهبيًّا أو مناطقيًّا.
ثالثًا – نشوء كيانات مستقلة، كما يُلوَّح أحيانًا في كردستان العراق أو جنوب اليمن.
رابعًا – إعادة ترتيب اقتصادي للمنطقة، عبر مشاريع إقليمية كبرى، كالممرّ الاقتصادي الهندي–الأوروبي، الذي قد يُعيد ربط الدول وفق مصالح جديدة.
واللافت أن الشعوب تبقى الطرف الأضعف في هذه المعادلة، رغم أنها المتضرّر الأكبر. فهذه التغييرات تُدار غالبًا في غرف مغلقة، بين قوى دولية وإقليمية، فيما يُفرَض الواقع على المواطنين، باسم الاستقرار، أو مكافحة الإرهاب، أو حماية الأقليات.
لكن وسط الحروب والأزمات الاقتصادية، يتنامى شعور لدى قطاعات واسعة من الشعوب بأن الخروج من الفوضى قد يمرّ بتغيير شكل الدولة، ولو على حساب وحدة الكيان.
إنّ ما ذُكر أعلاه يعكس صورة مفادها أن ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط ليس مجرد أحداث متفرّقة، بل ملامح لزلزال جيو-استراتيجي يُعيد تعريف الكيانات والهويات والتحالفات.
الخرائط الجديدة قد لا تُرسَم كلّها بالدم، لكنها بالتأكيد لا تُرسَم بالحبر وحده.