تشهد العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة تحوّلاً تاريخياً، يعيد رسم خريطة التفاعلات الإقليمية بعد أكثر من عقد من القطيعة والعداء السياسي، فمنذ مطلع عام 2025 بدأت المؤشرات تتوالى حول تحوّل تدريجي في الموقف الأميركي تجاه دمشق، ما أسفر في نهاية المطاف عما يُمكن وصفه بـ”الانفتاح المدروس” بين الجانبين، توّجته خطوات سياسية ودبلوماسية غير مسبوقة، بعد مسار تفاوضي طويل بدأ فعلياً منذ الربع الأخير من عام 2024، عبر قنوات استخباراتية مغلقة جمعت مسؤولين سوريين وأميركيين في عدة عواصم عربية.
في مايو 2025، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عزمه رفع العقوبات المفروضة على سوريا، في خطوة اعتُبرت تحولاً جذرياً في مقاربة واشنطن للملف السوري، وتبع ذلك تصريحات لافتة عبّر فيها ترمب عن إعجابه بالرئيس السوري أحمد الشرع، مؤكداً أن “الأمور بيننا جيدة للغاية”.
وزارة الخارجية الأميركية أصدرت بيانات رسمية في مطلع نوفمبر الجاري، تؤكد أن إنهاء العقوبات “يخدم الهدف الاستراتيجي الأميركي في القضاء على داعش بصورة نهائية، ويتيح فرصة أفضل للشعب السوري”، بالتزامن مع تأكيد مسؤولين أميركيين أن “دمشق الجديدة” تفي بالتزاماتها في مكافحة الإرهاب، بما يشمل ملاحقة المقاتلين الأجانب وضبط ممرات التهريب على الحدود.
ثم جاءت الخطوات الدبلوماسية الأميركية اللاحقة لتترجم هذا التحول السياسي إلى واقع ملموس، ففي السادس من نوفمبر، صادق مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار أميركي يقضي برفع العقوبات عن الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية السوري أنس خطاب، في خطوة تعكس تقدير المجتمع الدولي للالتزامات السورية في مكافحة الإرهاب، واستجابة للجهود الأميركية الرامية لإعادة دمشق إلى دائرة الفاعلية الإقليمية والدولية.
مكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار
الانفتاح الدبلوماسي بين دمشق وواشنطن تزامن مع الإعلان عن زيارة الشرع للولايات المتحدة، بدعوة من نظيره الأميركي، إذ من المقرر أن يلتقي الشرع وترمب في البيت الأبيض، الاثنين.
مصادر خاصة أكدت لـ”الشرق”، أن الجانبان سيبحثان خلال “الاجتماع النادر”، التفاصيل الفنية الخاصة برفع العقوبات، والانضمام إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، وملف إعادة إعمار سوريا.
ويتضمن جدول أعمال الزيارة، وفق ما أكدته المصادر لـ”الشرق”، توقيع سوريا على اتفاق الانضمام إلى التحالف، والإعلان عن “صيغة تفاهم” لاتفاق سيوقع لاحقاً يوقف التصعيد الإسرائيلي جنوب البلاد، ضمن حدود اتفاق “فضّ الاشتباك” لعام 1974، مع تعديلات تراعي الظروف الراهنة، وتتضمن التزامات لضبط المسار الأمني والعسكري في جنوب سوريا، وفق حدود الدولة المعترف بها دولياً، وهو “الاتفاق الأمني” الذي تتوسط فيه الولايات المتحدة بين سوريا وإسرائيل.
ووفق المصادر نفسها، ستتناول أجندة المباحثات السورية الأميركية في البيت الأبيض، “إعادة هيكلة العلاقة بين حكومة دمشق، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ضمن تسوية وطنية برعاية واشنطن”.
ملفات على أجندة المحادثات الأميركية السورية في واشنطن
التفاصيل الفنية الخاصة برفع العقوبات المفروضة على دمشق.
انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش”.
إعادة إعمار سوريا.
“صيغة تفاهم” لاتفاق سيوقع لاحقاً يوقف التصعيد الإسرائيلي جنوب البلاد، ضمن حدود اتفاق “فضّ الاشتباك” لعام 1974، مع تعديلات تراعي الظروف الراهنة، وتتضمن التزامات لضبط المسار الأمني والعسكري في جنوب سوريا.
“إعادة هيكلة العلاقة” بين حكومة دمشق، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ضمن تسوية وطنية برعاية واشنطن.
وأكّدت المصادر أن دولاً مثل روسيا قد تلعب دوراً في هذا المسار، بعد توقيعها اتفاقيات تمهيدية مع وزارة الداخلية السورية، بهدف تحقيق “تعاون دولي” يسمح بأن تلعب موسكو دوراً في تعزيز الأمن وتطوير قطاع الشرطة في سوريا.
كما من الممكن أن تتولى القوات الأميركية لاحقاً، بعد الاتفاق مع الحكومة السورية على خطة إعادة التموضع، متابعة تنفيذ الاتفاق وضمان الالتزام ببنود التهدئة.
غير أن هذا المسار لا يزال، وفق المصادر، يواجه عقبات بارزة، أبرزها الإصرار الإسرائيلي على عدم الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في ديسمبر 2024، بالإضافة إلى شكل وظروف المنطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا، ضمن مسار متعدد الأطراف يسعى إلى ضمان الأمن وموازنة النفوذ في المنطقة.
كان المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، قال في تصريحات لوكالة “ريا نوفوستي” الروسية إن “التعاون في قطاعي الأمن والشرطة يأتي ضمن اتفاقيات أمنية مشتركة بين الجانبين، عند وجود تهديدات مشتركة”، مشيراً إلى أن “التعاون وتبادل الخبرات والتنسيق وتبادل المعلومات أمر ممكن بما يخدم مصلحة البلدين (سوريا وروسيا)”، دون الكشف عن تفاصيل فنية.
علاقات دمشق بـ”قسد”
فيما تتجه العلاقات السورية الأميركية نحو مرحلة أكثر وضوحاً، تتداخل الملفات الأمنية والعسكرية مع جهود إعادة الإعمار وتهيئة تسويات داخلية أوسع، في وقت تؤكد فيه دمشق تمسكها بوحدة أراضيها ورفضها لأي ترتيبات تمسّ سيادتها.
تبرز التحركات الدبلوماسية الأخيرة كمؤشر على مسار جديد؛ تسعى من خلاله الحكومة السورية لتثبيت حضورها في شمال شرقي البلاد، ضمن تفاهمات متقدمة مع واشنطن.
قتيبة إدلبي، مدير إدارة الشؤون الأميركية في وزارة الخارجية السورية، قال في تصريحات لـ”الشرق”، إن دمشق خلال هذه الزيارة تركز على الملفات الأمنية والعسكرية، مع العمل على كسب دعم دولي شامل لإعادة الإعمار ورفع القيود الاقتصادية التي قيدت البلاد طيلة سنوات الحرب، وتفعيل دور الحكومة السورية في شمال شرقي البلاد حيث تنتشر عناصر “قسد”، مع تقديم مقترحات لدمج مقاتليها ضمن الجيش الوطني في إطار تسوية وطنية شاملة.
وأكد أن أي تفاهم مع إسرائيل بشأن وقف التصعيد لن يكون على حساب السيادة الوطنية أو حدود الدولة، مشدداً على أن دمشق ترفض فرض أي “وقائع ميدانية جديدة” في الجنوب السوري.
أولويات الشرع في مباحثات واشنطن
التعاون الأمني والعسكري.
دعم دولي شامل لإعادة الإعمار ورفع القيود الاقتصادية.
تفعيل دور الحكومة السورية في شمال شرقي البلاد حيث تنتشر عناصر “قسد”، مع تقديم مقترحات لدمج مقاتليها بالجيش الوطني في إطار تسوية وطنية شاملة.
في هذا الإطار، أكدت مصادر خاصة لـ”الشرق”، أنه تم الوصول إلى خطوات مهمة، تضمنت توافقاً حول المرحلة الأولى لاندماج جزء كبير من قوات “قسد” في صفوف القوات الحكومية، بالإضافة إلى توافق على رفع علم الجمهورية السورية فوق كافة المقرات الرسمية في الحسكة والرقة ومنبج، إلى جانب مشروعات واسعة للبنية التحتية تهدف إلى تعزيز الاستقرار والسلطة المركزية، حيث تسعى الحكومة السورية وفق المصادر، للعمل مع الإدارة الأميركية على ضمان أن يكون إشراك “قسد” في العملية السياسية الرسمية لمكافحة تنظيم “داعش” تحت مظلة الحكومة المركزية، تمهيداً لمرحلة استقرار طويلة المدى تسمح بإعادة الانتشار العسكري الأميركي في مناطق محددة من شرق وشمال شرقي سوريا.
مدير إدارة الشؤون الأميركية في وزارة الخارجية السورية، أكد أن الحكومة السورية الحالية لا تقبل بوجود “قسد” كقوة منفصلة داخل البلاد، موضحاً “نحن منفتحون على اللامركزية بشكل عام وعلى الاستفادة من تجارب الآخرين، لكن بالشكل الذي يحفظ وحدة سوريا وسيادتها دون تقسيم. الحكومة السورية والحكومة الأميركية متفقتان على أمر أساسي، وهو أنه لا يمكن أن يكون هناك جيش داخل جيش أو دولة داخل دولة”.
في المقابل، اعتبر الكاتب السياسي، مؤيد قبلاوي، في حديثه لـ”الشرق”، هذه الزيارة تمثل تحولاً تاريخياً لا تقتصر آثاره الإيجابية على سوريا وحسب، بل تمتد لتشمل المجتمع الدولي ودول المنطقة، وقال إن واشنطن تنظر إلى الشرع بوصفه “شخصية قادرة على تحقيق توازن دقيق بين مكافحة الإرهاب وحفظ السيادة الوطنية، ما يفسر الإشادة المتكررة التي أبداها ترمب به، بعد جهود دمشق الواضحة في مكافحة الإرهاب وكبح التدخلات الأجنبية، وتأكيد الحكومة السورية التزامها بضمان أمن جميع المواطنين”.
ويرى الكاتب، أن واشنطن حرصت على تمرير القرار الخاص برفع العقوبات عن الرئيس السوري ووزير داخليته قبل زيارة الشرع للبيت الأبيض، بوصفه “بادرة حسن نية” تمهد لمرحلة تعاون أوسع، ضمن خطوات أميركية تهدف إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي في مكافحة الإرهاب ودعم مستقبل سوريا، و”هي خطوة تمثل خروجاً تدريجياً من سياسة العقوبات القصوى التي اعتمدتها الإدارات السابقة، نحو مقاربة أكثر مرونة ترتكز على المصالح الأمنية المشتركة ودعم بناء الدولة السورية الجديدة”.
إعادة تموضع القوات الأميركية
ونفى مصدر رسمي سوري، وجود أي خطط لإقامة قواعد أميركية جديدة في سوريا، وذلك عقب التسريبات التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام.
وأكد المصدر أن الواقع الحالي يقتصر على مباحثات جارية بين الحكومة السورية ووزارة الدفاع الأميركية “البنتاجون”، حول إعادة تموضع القوات الأميركية، ضمن قواعد صغيرة في محيط دمشق وجنوبها، وذلك تفاعلاً مع المتغيرات الأخيرة وتطور العلاقات منذ سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وصولاً إلى اللقاء بين الرئيسين (السوري والأميركي)، وما سيصدر عنه من إعلان تفاهمات واتفاقيات.
وأشار المصدر، في تصريحاته لـ”الشرق”، إلى أن مهمة هذا التمركز الجديد، والتي قد لا تُدرج ضمن إعلان التفاهمات في اللقاء المرتقب، قد تمتد مراحلها حتى تتضح بشكل كامل إلى أواخر العام الجاري، وتشمل الإشراف اللوجستي والفني على تنفيذ الاتفاق الأمني “السوري – الإسرائيلي” المرتقب، وتنسيق العمليات الاستخباراتية المشتركة ضد خلايا تنظيم “داعش” المنتشرة في البادية بعد انضمام سوريا للتحالف الدولي.
كما يجري وفق المصدر، بحث نقل جزء من القوات الأميركية العاملة في الحسكة ودير الزور إلى مواقع مراقبة، في إطار تفاهمات مع دمشق تضمن استمرار الوجود الأميركي المحدود كمراقب. وأكد المصدر في تصريحاته لـ”الشرق”، أن هذا الوجود العسكري الجديد سيكون منسقاً بالكامل مع الحكومة السورية ومع بعثة مراقبي الأمم المتحدة في الجولان، لتفادي أي احتكاك مباشر بين الجيشين السوري والإسرائيلي.
سلام أمني مرحلي
المصدر المطلع أشار كذلك، إلى أن هناك تفاهماً بين دمشق وواشنطن يوازن بين الاتفاق المرتقب بين سوريا وإسرائيل، وكذلك ترتيبات التموضع الأميركي في دمشق ومحيطها، باعتباره نموذجاً لـ”سلام أمني مرحلي”، “لا يستلزم في هذه المرحلة أي تطبيع سياسي شامل، ولا يقوم على فرض أي ضغوط على دمشق، بل يهدف إلى تثبيت الاستقرار وتهيئة الأرضية لمفاوضات سلام أوسع في المستقبل.
يمكن القول أن مجمل هذه التطورات تشير إلى أن سوريا تقف اليوم على أعتاب مرحلة سياسية جديدة غير مسبوقة، إذ تشهد البلاد للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين انفتاحاً أميركياً مباشراً مدعوماً بغطاء دولي وقبول إقليمي واسع.
وبينما تتجه الأنظار إلى واشنطن حيث يلتقي ترمب بالرئيس السوري أحمد الشرع، تتجدد التساؤلات الملحة بشأن ما إذا كان هذا المسار سيُفضي إلى تحويل صفحة الحرب الطويلة نحو تسوية مستدامة، أم أن تشابك المصالح الإقليمية لم يَنضج بعد بما يكفل بناء قاعدة ثابتة تضمن استقرار مستقبل سوريا.

