تسعى «الترويكا الأوروبية»، وحليفتها الولايات المتحدة، إلى دفع إيران نحو أمرين أساسيين: الأول، تمكين مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى المنشآت النووية الرئيسية في إيران، خصوصاً منشآت «فوردو» و«نطنز» و«أصفهان»، ومعرفة مصير الـ440 كيلوغراماً من اليورانيوم عالي التخصيب (60 في المائة) التي كانت تمتلكها قبل حرب الأيام الـ12 في يونيو (حزيران) الماضي.
وفي الوقت نفسه، تريد «الترويكا» دفع طهران إلى الجلوس مجدداً إلى طاولة المفاوضات التي ترغب في أن تكون مباشرة مع الطرف الأميركي، بهدف التوصل إلى اتفاق جديد يتناول، إلى جانب الملف النووي، برنامج إيران الصاروخي – الباليستي، وسياستها الإقليمية فيما يتعلق بأمن الخليج والملاحة وحرب غزة واليمن ولبنان.

وكان من الطبيعي أن تحتل هذه الملفات الحيّز الأساسي من اجتماع وزيري خارجية فرنسا وإيران، جان نويل بارو وعباس عراقجي، مساء الأربعاء، في باريس، وهو الاجتماع الذي حرصت الخارجية الإيرانية على التأكيد أنه «حصل بناءً على دعوة فرنسية».
أول اجتماع بعد نيويورك
تكمن أهمية الاجتماع في أنه الأول من نوعه منذ اللقاء الذي جرى في نيويورك سبتمبر (أيلول) الماضي، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، بحضور عراقجي ووزراء خارجية الترويكا (فرنسا وبريطانيا وألمانيا). وكان من الطبيعي أن يستفيد بارو من المناسبة ليذكّر طهران بما هو منتظر منها، وهو ما ورد في بيان وزارة الخارجية الفرنسية، والذي أكد ثلاثة عناصر أساسية: أولاً، مطالبة إيران بـ«احترام التزاماتها في مجال الضمانات» المنصوص عليها في معاهدة منع انتشار السلاح النووي. ثانياً، دعوتها إلى «تعاون كامل» مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ثالثاً، تذكيرها بـ«التزام فرنسا وشركائها الأوروبيين والأميركيين الثابت لصالح حل دبلوماسي». وحض البيان إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات «من أجل التوصل إلى حل متين ودائم يضمن ألا تمتلك إيران أبداً السلاح النووي».

في المقابل، عرض عراقجي، وفق البيان الصادر الخميس عن وزارة الخارجية الإيرانية، موقف بلاده المتمسك بـ«حقها القانوني في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية»، وباستعدادها للخوض بـ«جدية» في «مفاوضات معقولة ومنطقية» لطمأنة المجتمع الدولي بشأن سلمية برنامجها النووي.
كما كرر عراقجي السردية الإيرانية المندّدة بالأطراف التي انتهكت الاتفاق النووي وانسحبت منه وهاجمت المنشآت النووية. ووجّه انتقاداً لأداء «الترويكا» في مجلس الأمن (تفعيل آلية سناب باك) وفي مجلس محافظي الوكالة الدولية، محمّلاً إياها «مسؤولية الوضع الحالي»، وداعياً إياها إلى «تبنّي نهج مسؤول ومستقل يستند إلى القانون الدولي، لا سيما المادة الرابعة من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية».
«حوار طرشان»
ما سبق يعكس شيئاً يشبه «حوار الطرشان»؛ فمواقف الطرفين (الغربي والإيراني) جامدة ولم تتغيّر قيد أنملة منذ يونيو، بل قبل حرب الأيام الـ12 نفسها. ولم تنجح المفاوضات «بالواسطة» في «حلحلة» الشروط المتبادلة، الأمر الذي برز بوضوح من خلال حديث عراقجي إلى قناة «فرنس 24» بالإنجليزية. فالأخير لا يرى أن الجانب الأميركي «يسلك مساراً يمكن أن يؤدي إلى مفاوضات حقيقية وعادلة»، بل إنه يريد «إملاء شيء ما (إضافي) في كل مرة… بدلاً من القيام بمفاوضات حقيقية». وعلى العكس من ذلك، يقول عراقجي: «ما زلنا مستعدين للتفاوض، ولقد كنا دوماً جاهزين للتفاوض».
ولأن الوضع على هذه الحال، فإن إيران «ليست مستعجلة، ونحن ننتظر أن يصبح الأميركيون جاهزين لمفاوضات حقيقية وليس لمجرد الاستمرار في تقديم مطالب مبالغ فيها» لم يعمد أي من المسؤولين الإيرانيين، وأولهم عراقجي، إلى توفير ترجمة «عملية» لما تعنيه. وبعكس ما قيل مرات عديدة، بما في ذلك من الجانب الأميركي، فإن الوزير الإيراني نفى أن يكون قد حصل «أي اتصال أو تبادل» مع المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف أو مع وزير الخارجية ماركو روبيو.
أما بشأن ما تردد عن طلب طهران من المملكة العربية السعودية لعب دور الوسيط بينها وبين واشنطن، فقد اقتصر تعليق عراقجي على أن بلاده «لديها ثقة كاملة بالمملكة السعودية»، مما يعكس، تلميحاً، جواباً إيجابياً. لكن اللافت في حديث عراقجي، وأيضاً في الموقف الفرنسي، هو غياب أي إشارة إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه «الترويكا» كوسيط بين طهران وواشنطن، وهو الدور الذي سعت إليه سابقاً.
ومن المعروف أن إيران، منذ الصيف الماضي وبعد إعادة تفعيل «سناب باك»، لم تعد تُعير «الترويكا» أهمية، إذ ترى أن المفاوضات معها «بلا فائدة»، كما قال ذلك أكثر من مسؤول إيراني، بينهم عراقجي نفسه.
حقيقة الأمر أن الأدبيات الإيرانية حول شروط التفاوض أكثر من أن تُحصى. غير أن لُبَّ المسألة ذو عنوان مزدوج: الغربيون يرون أن إيران لم تحسم بعد الطريق الذي تريد سلوكه في تعاملها مع الغرب، ويرون أن المطلب الأول هو رفض الإصرار الإيراني على الإبقاء على عملية تخصيب اليورانيوم داخل أراضيها. وهذا المطلب تصرّ عليه، بشكل خاص، الولايات المتحدة وإسرائيل، فيما ترفضه طهران لأنه يعني التخلّي عمّا تعده الرواية الإيرانية «إنجازاً رئيسياً» أتاحه اتفاق 2015 مع مجموعة 5+1.
أما بشأن فتح المنشآت النووية الرئيسية، التي ضُربت الصيف الماضي، أمام المفتشين الدوليين، فقد استعاد عراقجي الحجة الإيرانية القائلة إن الاقتراب منها «ينطوي على صعوبات ومخاطر». وحاول أيضاً إشاعة مناخ من الثقة بشأن احتمال معاودة قصف المنشآت النووية، على أساس أن طهران «خرجت منتصرة» من الحرب. وقال موجهاً كلامه إلى الأميركيين والإسرائيليين: «إذا كنتم قد فعلتم ذلك من قبل وفشلتم، فمن المنطقي ألا تفعلوه مرة أخرى».
لكن مصدراً دبلوماسياً أوروبياً في باريس أشار إلى أن أكثر ما تخشاه طهران هو عودة الحرب، لما تحمله من تهديد للنظام والاقتصاد، وبالتالي فإنها «بحاجة إلى وسيط موثوق» مع واشنطن.

عملية المبادلة بعد شهرين
في مؤتمره الصحافي، الخميس، سُئل الناطق باسم الخارجية الفرنسية باسكال كونفافرو، عن الجديد بشأن الرهينتين الفرنسيتين سيسيل كوهلر وجاك باريس، اللذين منحتهما إيران «إفراجاً مشروطاً»، لكنها ما زالت تمنعهما حتى اليوم من مغادرة البلاد.
وبعد أن ذكّر كونفافرو بالجهود التي تبذلها باريس لإعادتهما إلى فرنسا، نبّه إلى أن التداول بهذه المسائل «يحتاج لبعض التكتم». وقد ظهر ذلك في بيان «الخارجية» الذي اكتفى بالقول إن الوزير بارو «أكّد ضرورة تمكين مواطنَينا الاثنين، الموجودين حالياً في السفارة الفرنسية في طهران، من العودة إلى فرنسا في أقرب الآجال».
أما بيان «الخارجية الإيرانية» فأشار إلى أن عراقجي «أعرب عن رفضه اعتقال المواطنة (الإيرانية) مهدية إسفندياري، ووصفه بأنه اعتقال غير مبرَّر، مرحباً بقرار المحكمة الفرنسية منحها الإفراج المشروط. وطالب بالإسراع في عملية تبرئتها وإطلاق سراحها الكامل لتمكينها من العودة إلى إيران».
وما لم يرد في البيانين أفصح عنه عراقجي في حديثه التلفزيوني للقناة الفرنسية، حيث كشف عن وجود عملية تبادل بين كوهلر وباريس من جهة، وإسفندياري من جهة أخرى. وقال ما حرفيته: «تم التفاوض على هذا التبادل بيننا وبين فرنسا. جرى التوصل إلى اتفاق، ونحن في انتظار استكمال الإجراءات القانونية والقضائية في كلا البلدين». وكان يشير بذلك إلى محاكمة إسفندياري الموجودة في السفارة الإيرانية في باريس، والتي حُدد موعدها بين 13 و16 يناير (كانون الثاني) المقبل.

وأضاف عراقجي: «آمل، وأعتقد، أنه خلال الشهرين المقبلين (…) سيتم الانتهاء من ذلك وسيجري التبادل». وحسب الجانب الإيراني، فإن الإجراءات القانونية بحق الفرنسيين قد اكتملت، وتنتظر طهران اكتمالها بحق إسفندياري من خلال تبرئتها رسمياً في المحاكمة، من التهم الموجهة إليها، ومنها «تمجيد الإرهاب» و«التحريض عليه» و«ذم وإيذاء الجالية اليهودية»… ومثل كوهلر وباريس، فقد حُرمت إسفندياري من جواز سفرها ومن مغادرة فرنسا بانتظار قرار المحكمة. ومع ذلك، يبدو أن الأمور منتهية، وعراقجي واثق من أن «كل شيء جاهز، ونحن ننتظر انتهاء الإجراءات القانونية في فرنسا».

