توصلت دراسة حديثة إلى أن حبوب اللقاح التي يجمعها نحل العسل تحتوي على بكتيريا تنتج مركبات مضادة للميكروبات، تعمل على حماية الخلية من الأمراض.
ومن شأن هذا الاكتشاف أن يفتح الباب أمام تطوير وسائل طبيعية ومستدامة لتعزيز صحة النحل والمحاصيل الزراعية على حد سواء.
وخضعت الدراسة التي نُشرت في دورية Frontiers in Microbiology لمراجعة علمية دقيقة، وأجراها فريق باحثين في الولايات المتحدة، وكشفوا من خلالها عن مصدر غير متوقع لعقاقير طبيعية يمكن أن تغير طريقة التعامل مع التهديدات التي تواجه مستعمرات النحل حول العالم.
أوضح الباحثون أن خلايا النحل تشبه حصوناً طبيعية، فهي غنية بالعسل والشمع وحبوب اللقاح، لكنها في الوقت ذاته هدف مغرٍ لأكثر من 30 نوعًا معروفاً من الطفيليات والفيروسات والبكتيريا والفطريات والمفصليات التي تصيب النحل.
وتتزايد هذه التهديدات بشكل مستمر، ما يجعل مربي النحل في حالة بحث دائم عن وسائل جديدة وفعالة لحماية مستعمراتهم، ومن هنا جاءت فكرة فريق الدراسة بالبحث عن مصدر الحماية داخل حبوب اللقاح نفسها، باعتبار أن النباتات التي تنتجها قد تحمل ميكروبات نافعة تطورت عبر الزمن لتدافع عن الملقحات التي تساهم في تكاثرها.
ركزت الدراسة بشكل خاص على البكتيريا التابعة لشعبة “الأكتينوبكتيريا”، وهي معروفة في الأوساط العلمية بأنها مصدر لما يقارب ثلثي المضادات الحيوية المستخدمة حالياً في الطب البشري.
وجمع الفريق بين شهري أبريل ويونيو 2021 عينات من حبوب اللقاح من 10 أنواع نباتية محلية في محمية “ليكشور نيتشر” بجامعة ويسكونسن – ماديسون الأميركية، إضافة إلى عينات أخرى من مخازن اللقاح في خلية نحل قريبة.
وأظهرت نتائج العزل والتحليل الجيني أن 16 سلالة من الأكتينوبكتيريا عثر عليها في النباتات، في حين جرى تحديد 18 سلالة أخرى في حبوب اللقاح داخل الخلية، وتبين أن معظمها ينتمي إلى جنس “ستربتوميسيس”، وهو جنس معروف تاريخياً بقدرته على إنتاج مضادات حيوية وأدوية مضادة للسرطان والطفيليات.
وكشف تحليل الحمض النووي أن كثيراً من هذه السلالات متطابق أو قريب جداً بين العينات المأخوذة من النباتات وتلك الموجودة داخل الخلية، ما يشير إلى أن النحل يحمل هذه البكتيريا معه من الأزهار إلى داخل الخلية، حيث تواصل أداء دور دفاعي ضد مسببات الأمراض.
وللتأكد من الدور الوظيفي للبكتيريا، أجرى الباحثون تجارب منافسة، وضعوا خلالها مسببات أمراض معروفة إلى جانب سلالات الستربتوميسيس المعزولة، وأظهرت النتائج أن غالبية السلالات كانت فعالة بشكل واضح في تثبيط نمو الفطر المسبب لمرض “الحضنة الحجرية” في النحل، كما أظهرت بعض السلالات نشاطاً متوسطاً إلى قوي ضد بكتيريا ممرضة للنحل المسببة لمرض تعفن الحضنة الأميركي، إضافة إلى فعاليتها في مواجهة مسببات أمراض نباتية خطيرة مثل المسببة لآفة “لفحة النار” في عائلة التفاحيات (يتبعها التفاح والكمثرى والسفرجل والبشملة)، وغيرها من الأمراض.
لم تقتصر الدراسة على النتائج المخبرية فقط، بل قدمت تفسيراً بيئياً دقيقاً، إذ أظهرت أن البكتيريا ليست مجرد ملوثات عابرة، بل هي “إندوفيتات” – أي ميكروبات تعيش بداخل أنسجة النبات وتؤدي أدواراً تكافلية.
وأظهر التحليل الجيني أن “الأندوفيتات” تملك جينات تساعدها على استعمار الأنسجة النباتية، وإنتاج هرمونات تحفز نمو النبات، وحتى جمع المعادن حول الجذور، ما يعزز دورها كعناصر أساسية في النظام البيئي للنبات، ما يعني أن النباتات تستفيد من الميكروبات، وفي المقابل تعمل الأخيرة على حماية الملقحات، وهو ما يخلق دائرة من الفوائد المتبادلة
وقال المؤلف المشارك في الدراسة، دانيال ماي، الباحث في كلية واشنطن بولاية ماريلاند، إنهم تمكنوا من عزل بكتيريا الستربتوميسيس نفسها من الأزهار، ومن أجساد النحل المغطى بحبوب اللقاح عند مغادرتها، وكذلك من داخل الخلية، وهو ما يقود إلى استنتاج أن هذه البكتيريا تحملها حبوب اللقاح وتنقل مباشرة إلى مخازن الخلية، حيث تساعد في الدفاع عنها ضد الأمراض.
وأكد ماي أن هذه النتائج تكشف عن إمكانات كبيرة لاكتشاف مركبات حيوية جديدة من هذه الكائنات الدقيقة، يمكن أن تفيد في حماية النحل والمحاصيل الزراعية على حد سواء.
وتشير نتائج الدراسة أيضاً إلى أن التنوع النباتي في البيئة المحيطة له دور أساسي في تعزيز صحة النحل، لأن تنوع النباتات يعني تنوع الأكتينوبكتيريا الإندوفايتية التي تتاح للنحل. وبذلك يصبح الحفاظ على بيئات غنية بالنباتات المحلية وسيلة غير مباشرة لحماية مستعمرات النحل، وهو ما يعزز الدعوات البيئية لزيادة الغطاء النباتي كجزء من استراتيجية شاملة لحماية التنوع الحيوي.
وخلصت الدراسة إلى أن مستقبل علاج أمراض النحل قد يعتمد ببساطة على إدخال البكتيريا النافعة المناسبة إلى الخلايا، لتعمل كخط دفاع طبيعي ضد مسببات الأمراض المحددة، ما يفتح الباب أمام حلول صديقة للبيئة ومستدامة، في وقت تتزايد فيه المخاوف من مقاومة مسببات الأمراض للمبيدات الكيميائية وفقدان النحل بسبب التغيرات البيئية والأمراض.