لا تتعلق قصة الذكاء الاصطناعي الحقيقية في معظم المؤسسات بالخوارزميات؛ بل بالعادات السائدة فيها.
روتين الأعمال يقضي على الإبداع
في حين تظهر أدوات جديدة مصحوبة بعروض مبهرة ووعود واثقة، فإن الروتين اليومي هو الذي يُحدد ما النظام وما الأمر الذي يجذب الانتباه، ومن الذي يُمكنه المخاطرة؛ لذا فإن ما يُعدّ «عملاً جيداً» يميل إلى البقاء على حاله، كما كتب فيصل حق (*).
وبينما يُنشئ القادة وحدات خاصة، أو يُطلقون دورات تدريبية، أو يبحثون عن مكاسب سريعة، فإنهم يجدون أن الثقافة القديمة تُعيد ضبط الشروط والظروف بهدوء. وعندما يحدث ذلك، تتلاشى المكاسب المبكرة، ويتوقف التبني للأدوات الجديدة، ويزداد التشكيك.
3
خرافات
تستند هذه المقالة إلى كتابي القادم للنظر في ثلاث خرافات متكررة تُساعد في دعم الثقافات القائمة، وتمنع التحولات العميقة اللازمة لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي الناجحة.
إن تحويل الأعمال لتحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي يعني تجاوز هذه الجوانب المُريحة وتغيير الظروف التي تعمل في ظلها المؤسسة بأكملها.
1. الخرافة الأولى: «وحدات الابتكار ستنقذنا». بعد خمس سنوات من التشغيل، بدت خدمة الحكومة الرقمية Government Digital Service (GDS) في المملكة المتحدة قوية، فمنذ أن أُنشئت عام 2011، أحدثت ثورة في الخدمات الرقمية البريطانية. وبهدف إعادة تصوّر «الحكومة منصةً»؛ جمعت مئات المواقع الإلكترونية في بوابة واحدة سهلة الاستخدام، وخفّضت الهدر بإجبار الإدارات على توحيد منصاتها، وأثبتت أنه، بالنهج الصحيح، فإن حتى الهيئات الحكومية قادرة على التحرك بسرعة مشابهة للشركات الناشئة. وفي عام 2016، صُنّفت الخدمات الرقمية في المملكة المتحدة بوصفها أفضل الخدمات الرقمية في العالم. ومع ذلك، بحلول عام 2020، اختفت خدمة الحكومة الرقمية كقوة مؤثرة داخل حكومة المملكة المتحدة.
وحدات نخبوية… تتلاشى
يتكرر هذا النمط بانتظام في مختبرات الابتكار المؤسسية: إنشاء وحدة نخبة، ومنحها قواعد خاصة، والاحتفال بالإنجازات المبكرة، ثم تركها تتلاشى. يمكن لوحدة الابتكار أن تحقق نتائج استثنائية ما دام أنها تتمتع بحماية القيادة العليا، وموارد متدفقة بحرّية، وثقافة داخلية تجذب المواهب الاستثنائية. لكن هذا النموذج يحمل في طياته أيضاً بذور انهياره، فوضعية المؤسسة كجهة خارجية تُمكّن إدخال الابتكارات الرائدة تجعل الاستدامة واسعة النطاق شبه مستحيلة. وعندما يرحل الرعاة التنفيذيون، يسقط الدرع، وتبدأ الأجسام المضادة التنظيمية في إعادة تأكيد المعايير الثقافية السبقة.
وحدات الابتكار بصفتها محفزات… ومواءمة ثقافة العمل معها
لتنطبق دورة الحياة المتوقعة هذه على الفرق التي تُركز على الذكاء الاصطناعي بقدر ما تنطبق على الفرق التي تُحرك أي نوع آخر من التغيير التكنولوجي.
الدرس المستفاد من هذا ليس التخلي عن وحدات الابتكار، بل استخدامها استراتيجياً ومتابعة المكاسب التي تحققها. يجب النظر إلى وحدات الابتكار بصفتها محفزات، وليست حلولاً دائمة. وبينما تمضي هذه الفرق قُدماً بتحقيق مكاسب سريعة وإثبات مناهج جديدة، تحتاج المؤسسات أيضاً إلى تحويل ثقافتها الأوسع بالتوازي.
لا ينبغي أن يكون الهدف حماية وحدة الابتكار إلى أجل غير مسمى، بل مواءمة الثقافة التنظيمية مع المناهج المبتكرة التي تُطورها. فإذا كانت وحدات الابتكار بمثابة شرارات، فإن الثقافة هي الأكسجين. أنت في حاجة إلى كليهما معاً، وإلا انطفأت شعلة التغيير.
التدريب في أجواء الإبداع الفكري
2. الخرافة الثانية: «موظفونا في حاجة فقط إلى التدريب». تنفق الشركات الملايين لتعليم موظفيها استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ثم تتساءل لماذا لا تحدث التحولات المطلوبة أبداً. والسبب هو أن المشكلة الأساسية لا تتعلق بالمهارات فحسب، بل بالخيال (الإبداع الفكري) اللازم لاستخدامها بفاعلية.
يمكنك تدريب قوى العمل لديك على استخدام التكنولوجيا الجديدة، لكن لا يمكنك تدريبها على الحماس لها أو الاهتمام بمستقبل العمل. وهذا يتطلب تغييراً على المستوى الثقافي.
الذكاء الاصطناعي شريكاً
عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، فإن الفجوة الحقيقية تكمن في المفاهيم، وليست في التقنية. يحتاج الموظفون إلى التحول من عدّ الذكاء الاصطناعي أداةً أفضل إلى فهم دوره بصفته شريكاً فكرياً. وهذا يتطلب أكثر من مجرد دروس تعليمية. إنه يعني عرض كيفية مساهمة الذكاء الاصطناعي في تحويل سير العمل، ثم مكافأة استخدامه الإبداعي.
أظهِِر لفريق المبيعات كيف يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ باحتياجات العملاء قبل المكالمات، وليس مجرد نسخها لاحقاً. وضِّح كيف يمكن للفرق القانونية التحول من مراجعة المستندات إلى الاستشارات الاستراتيجية. وعندما تطلب المؤسسات من موظفيها «استخدام الأدوات» دون تغيير الأعراف الاجتماعية المحيطة باستخدامها، قد يُعاقب الأفراد على قيامهم بما طلبته القيادة بالضبط.
ضعف تقييم العاملين مستخدمي الذكاء الاصطناعي
وجدت تجربة حديثة أجريت على 1026 مهندس برمجيات أنه عندما اعتقد المراجعون أن الرموز الكومبيوترية قد أُنتجت بمساعدة الذكاء الاصطناعي، فقد قيّموا كفاءة المبرمج المؤلف لها بنسبة أقل بنحو 9 في المائة على الرغم من أن نوع العمل كان متطابقاً. والأكثر إثارة للقلق هو أن العقوبة كانت أكبر للنساء والمهندسين الأكبر سناً، وهما فئتان لطالما عوملتا بمعاملة سلبية في التقييمات.
في استطلاع مصاحب شمل 919 مهندساً، أفاد الكثيرون بترددهم في استخدام الذكاء الاصطناعي؛ خوفاً من أن يُفهم تبنيه على أنه نقص في المهارة – ما يوضح سبب عدم ترجمة إتاحة الأدوات الذكية والتدريب عليها إلى إقبال كبير، في جو تشير فيه الثقافة السائدة إلى أن الاستخدام الواضح للذكاء الاصطناعي سيضر بالمصداقية.
إزاحة القوة العاملة
3. الخرافة الثالثة: «الذكاء الاصطناعي يُسهّل تقليص القوى العاملة».
هناك وعود مغرية تُسوق للشركات حالياً. يكمن السبيل لتحقيق قيمة كبرى للذكاء الاصطناعي ببساطة في استبدال أكبر عدد ممكن من الموظفين. إذن سرّح نصف موظفيك، واحتفظ بالمدخرات، ودع الآلات تُدير الباقي. حسابات بسيطة للعقول البسيطة.
الحقيقة المُربكة هي أن الذكاء الاصطناعي قادر، وسيُحلّ محلّ الكثير من الوظائف البشرية، لكنه لن يقوم بذلك بسلاسة، ولن يكون ذلك سهلاً. كما أن فكرة استبدال العنصر البشري في معظم الحالات بآلة، ببساطة لا تُجدي نفعاً.
تسريع الأتمتة سيقوض ركائز هيكل العمل
يعمل البشر معاً كأجزاء من هياكل اجتماعية متعددة الطبقات تطورت كنظم في وسطها المحيط. وغالباً ما يكون لتغيير جزء واحد عواقب وخيمة على جزء آخر. إذا تسرّعنا في الأتمتة، فإننا نُخاطر بتفكيك الركائز التي تُسند الهيكل بأكمله.
فكّر في الساعات المُرهقة التي يقضيها المُحللون المُبتدئون في تنظيف البيانات، وتدقيق الأرقام، وبناء النماذج من الصفر. أو العمل الذي سيقوم به المدير المُعيّن حديثاً، وهو الإشراف على الأداء وملء المستندات. نُسمّيه عملاً روتينياً، ولكنه في الواقع الطريقة التي يُطوّر بها البشر المهارات التي سيحتاجون إليها في المناصب العليا.
وظيفة المبتدئين… مسار يتخرج فيه القادة الكبار
إذا استغنيتَ عن وظائف المبتدئين، ستفقد المسار الوظيفي الذي يُخرّج قادةً كباراً ذوي مهارات عالية تحتاج إليهم. وإذا سمحتَ بـ«إعادة هيكلة المهارات» المدعومة بالذكاء الاصطناعي، فستفقد الحكمة البشرية والإشراف اللذين تعتمد عليهما المؤسسات.
مثال على قوة العمل البشري
وإليك هذا المثال: يُظهر مسار «كلارنا» Klarna كلا جانبي هذه المعادلة. في أوائل عام 2024، تعامل مساعد الذكاء الاصطناعي الخاص بها مع ثلثي محادثات العملاء، مُقدّماً أوقاتاً للحلول خلال أقل من دقيقتين، مع انخفاض بنسبة 25 في المائة في تكرار الاستفسارات. وبحلول عام 2025، أقرّت قيادة «كلارنا» علناً بحدود هذا النهج المُعتمد على الذكاء الاصطناعي فقط، وبدأت في إعادة فتح الأدوار البشرية، مُركّزة على تجربة خدمة العميل البشرية إلى جانب الأتمتة.
السؤال الحقيقي ليس عدد الأشخاص الذين يُمكنك الاستغناء عنهم. لتطبيق الذكاء الاصطناعي بفاعلية، عليك أن تُدرك أن البشر يُقدّمون مساهمات أساسية لا تظهر في توصيف وظائفهم.
دليل التحول الثقافي: تصحيح الخرافات
يعتمد تغيير الثقافة على العادات والحوافز والتوقعات، وليس مجرد إضافة أدوات جديدة. يقدم الدليل التالي خطوات ملموسة يمكن للقادة اتخاذها الآن لتجنب المخاطر التي تقع فيها كثير من الشركات.
• تنفيذ تحولات موازية (تصحيح الخرافة الأولى). تحقق وحدة الابتكار مكاسب سريعة، بينما تُحدث المبادرات المنفصلة عنها تحولاً في الثقافة الأوسع. يجب أن يحدث هذا في وقت واحد، وليس بالتتابع.
استخدم وضع وحدة الابتكار المحمي وانتصاراتها المبكرة لبناء ثقة مؤسسية بالتغيير، مع الاستثمار بالتساوي في إعداد الثقافة الرئيسية لما هو قادم. وبدون مسارات متوازية، تصبح وحدة الابتكار جزيرة معزولة من التميز، وستزول في النهاية.
• تغيير الطبقة الوسطى (تصحيح الخرافة الثانية). المدراء المتوسطون هم الحراس الحقيقيون لتغيير الثقافة. توقفوا عن إهدار الطاقة في محاولة تغيير المتشككين. بدلاً من ذلك، حددوا الفضوليين (أي الذين لديهم حب الاطلاع) وامنحوهم سلطة التجربة، وخصصوا ميزانية للفشل، وتجنّبوا الالتزام بالمعايير التقليدية.
حاولوا منح مدراء محددين ميثاقاً مصغراً لتطبيق التغيير في فرقهم، إلى جانب جلسة أسبوعية لعرض نتائج العمل (ما هو الذكاء الاصطناعي المستخدم، وما هو المقبول أو المرفوض، ولماذا؟) لمشاركة ما تعلموه مع زملائهم.
• بناء مسارات تعلم بديلة (تصحيح الخرافة الثالثة). إذا ألغى الذكاء الاصطناعي التجارب التي تبني الحكمة، فتجب عليك إعادة إنشائها بوعي. تُصبح عمليات المحاكاة عالية الدقة، وبرامج التدوير، و«أيام العمل البشرية» من دون الذكاء الاصطناعي ضروريات وجودية. حافظ صراحةً على الأنشطة التي تُنمّي القدرة على التعرّف على الأنماط وحس العمل. قد يبدو الاستثمار مُبذراً حتى تُدرك أن البديل هو قوة عاملة قادرة على تشغيل الأدوات، ولكنها لا تستطيع الاستجابة عند حدوث أي عطل.
الخيار الرئيسي
يُعدّ تغيير الثقافة أصعب من تطبيق التكنولوجيا. إنه أكثر تعقيداً وبطءً، ويستحيل التحكم فيه بالكامل. ستختار معظم الشركات المسار السهل: شراء الذكاء الاصطناعي، والتدريب على الأدوات، وإنشاء مختبر ابتكار، والأمل في الأفضل.
القلة التي تختار المسار الصعب – التحول المتوازي، والتطور الثقافي، والحفاظ على تجارب التعلم – ستكتسب مزايا تنافسية قوية. سيكون لديهم قوى عاملة لا تكتفي باستخدام الذكاء الاصطناعي، بل تفكر به، وثقافات لا تكتفي بتقبل التغيير، بل تتوقعه، ومنظمات لا تكتفي بالنجاة من التغيير، بل تقوده.
* مجلة «فاست كومباني» – خدمات «تريبيون ميديا»