اختفاء كبار قادة الحوثيين في الذكرى السنوية لقتلاهم
خلافاً لما كان عليه الأمر طوال السنوات الماضية، شهدت المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة الحوثية هذا العام غياباً كاملاً لقيادات الجماعة عن الفعاليات التي تنظمها بمناسبة الذكرى السنوية لقتلاها، وهو ما يعكس حالة الذعر والقلق الأمني التي تسيطر على صفوفها عقب الضربات الإسرائيلية التي استهدفت عدداً من أبرز القادة.
فعلى مدى عقدين، دأب الحوثيون على استغلال هذه المناسبة التي يطلقون عليها «أسبوع الشهيد» وتحويلها إلى مهرجان تعبوي لترويج أفكارهم واستقطاب مزيد من الأنصار، ولا سيما بعد انقلابهم على الحكومة الشرعية في نهاية عام 2014.
وفي حين كانت قيادات الصف الأول تظهر في تلك الاحتفالات بخطب حماسية ومسيرات جماهيرية ضخمة، غير أن هذا العام اكتفت الجماعة ببث خطابٍ مسجلٍ لزعيمها عبد الملك الحوثي عبر قناة «المسيرة»، دون حضور أي من قادتها المعروفين.

وكان المشهد الأبرز في الفعالية المركزية التي نظمتها الجماعة في الكهف الجبلي المعروف باسم «جرف سلمان»، وهو الموقع الذي قُتل فيه مؤسس الجماعة حسين الحوثي، حيث غابت القيادات البارزة عن المكان، واكتفت القناة الحوثية ببث تقرير مصور يظهر مجموعة من المراهقين والأطفال وهم يرددون شعارات الثورة الإيرانية.
كما غابت الزيارات السنوية التي كان ينظمها قادة الجماعة لمقابر القتلى الحوثيين في صعدة وصنعاء ومناطق أخرى، وهو ما فُسّر بأنه إجراء احترازي خشية الاستهداف.
الخوف من الرصد
وبحسب مصادر سياسية في صنعاء، فإن قرار اختفاء القيادات جاء بعد مقتل رئيس حكومة الحوثيين وتسعة من أعضائها في غارة إسرائيلية دقيقة أواخر أغسطس (آب) الماضي، إذ أعقب ذلك إجراءات أمنية مشددة وتوجيهات سرية بنقل مواقع إقامة كبار القادة إلى أماكن مجهولة، وتغيير وسائل الاتصال والمرافقين.
ولا يزال وزيرا الدفاع والداخلية في حكومة الحوثيين متواريين عن الأنظار منذ تلك الضربة، في حين تم تفويض شخصيات مدنية لا تمتلك نفوذاً فعلياً لتمثيل الجماعة في المناسبات الرسمية، من بينهم عبد العزيز بن حبتور، رئيس الحكومة السابق، الذي يوصف بأنه منزوع الصلاحيات.

ويقول مراقبون إن هذا التحول يعكس اختراقاً أمنياً غير مسبوق داخل المنظومة الحوثية، حيث لا تزال الجماعة عاجزة عن معرفة كيفية تنفيذ تلك الضربة التي استهدفت حكومتها، رغم التحقيقات الواسعة التي أجرتها منذ ذلك الحين.
وقد دفعها ذلك إلى شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، موجهة إليهم اتهامات بالتورط في عملية الاستهداف، وهي تهم نفتها الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية بشكل قاطع.
تجنيد الأطفال
وفي الوقت الذي اختفى فيه كبار القادة عن الأنظار، حرصت الجماعة الحوثية على استغلال المناسبة لتكثيف جهودها في تجنيد الأطفال والمراهقين، من خلال فعاليات رمزية تمجد «الشهداء الصغار» الذين قتلوا في جبهات القتال. إذ نظمت الجماعة زيارات مدرسية إلى مقابر مقاتليها، وقدمت عروضاً مصورة لأطفال ومراهقين قضوا في الحرب، مقدّمة إياهم بوصفهم نماذج للبطولة والتضحية.
وتحدث شهود في صنعاء وذمار عن حملات تعبئة جديدة تستهدف طلاب المدارس، تدعوهم إلى الالتحاق بمعسكرات التدريب، وتصف ذلك بأنه «واجب ديني وجهاد مقدس».
كما بثت القنوات التابعة للجماعة مشاهد دعائية تُظهر مقاتلين صغاراً وهم يتدربون على السلاح، في محاولة لتجنيد أكبر عدد من الأطفال لتعويض الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبدتها الجماعة في الأشهر الأخيرة.

وصف وزير الإعلام والثقافة والسياحة في الحكومة اليمنية، معمر الإرياني، المشاهد التي بثها الإعلام الحوثي بأنها صادمة ومؤلمة، عادّاً أنها تكشف طبيعة الجماعة التي «تتبادل الضحكات بين صور الأطفال الذين زجت بهم وقوداً لحروبها العبثية».
وقال الإرياني إن ما يحدث يمثل «أبشع صور الاستغلال الطفولي والانحدار الأخلاقي»، ويعكس انعدام التقدير لمن قتلوا دفاعاً عن مشروع الجماعة الطائفي.
وأشار الوزير إلى أن الحوثيين يحاولون إعادة تدوير الخطاب العقائدي عبر استثارة المشاعر الدينية والمظلومية التاريخية، في حين أنهم في الواقع يسعون إلى تعويض خسائرهم في الجبهات بعد ازدياد الانشقاقات والتمردات داخل صفوفهم، لافتاً إلى أن استمرار عمليات التجنيد الإجباري للأطفال يُشكل جريمة حرب تستدعي موقفاً حازماً من المجتمع الدولي.
محاكمات دعائية
وفي خطوة وُصفت بأنها محاولة لصرف الأنظار عن الاختراقات الأمنية التي تعرّضت لها، أعلنت الجماعة الحوثية هذا الأسبوع بدء محاكمة 21 شخصاً بتهمة الانتماء إلى ما قالت إنها «شبكة تجسسية تعمل لصالح المخابرات الأميركية والإسرائيلية والبريطانية».
وقالت وسائل الإعلام التابعة للجماعة إن المحكمة الجزائية المتخصصة عقدت جلستين منفصلتين برئاسة القاضيين يحيى المنصور وربيع الزبير، وبحضور ممثلين عن النيابة، تم خلالهما تلاوة قرارات الاتهام ومواجهة المتهمين بأدلة زعمت الجماعة أنها «دامغة».
وادعت النيابة الحوثية أن المتهمين عملوا ضمن «غرفة عمليات مشتركة»، وتلقوا تدريبات على استخدام تطبيقات مشفرة وكاميرات سرية، ونفذوا عمليات مراقبة لمواقع عسكرية وأمنية ومدنية في صنعاء وعدة محافظات.

مصادر سياسية وأمنية يمنية استبعدت صحة هذه المزاعم، وعدّت أن الإعلان الحوثي الجديد جزء من حملة دعائية تهدف إلى ترميم صورة الجماعة بعد سلسلة من الضربات الجوية الدقيقة التي استهدفت مواقع حساسة في صعدة وصنعاء خلال الأشهر الماضية، وأدت إلى مقتل قيادات بارزة وتدمير مخابئ سرية.
وقالت المصادر لـ«الشرق الأوسط» إن الضربات الأميركية والإسرائيلية الأخيرة، التي طالت مواقع عسكرية ومخازن أسلحة، «أصابت الجهاز الأمني الحوثي بارتباك غير مسبوق»، وأثارت تساؤلات بين صفوف أنصار الجماعة حول قدرة قيادتها على حماية نفسها.
وأضافت المصادر أن ما تُسمى «محاكمة الجواسيس» تأتي في هذا السياق «لاستعادة ثقة الأتباع عبر مشهد قضائي مصطنع يُظهر الجماعة كمن تسيطر وتكتشف وتنتقم».
يشار إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الجماعة إلى مثل هذا الأسلوب الدعائي؛ إذ اعتادت على ترويج قضايا «تجسس» و«عمالة» بعد كل ضربة تتلقاها أو عند مقتل أحد قادتها.

